الاثنين، 13 فبراير 2012

موتى يدفنون ميتاً بقلم د. أيمن الجندى ١٣/ ٢/ ٢٠١٢


«سمعتُ الخبر لتوّى. إنا لله وإنا إليه راجعون. رحمة الله عليك يا جلال عامر! رحل الرجل الذى لطالما رسم البسمة على وجوه ملايين المصريين، وترك لنا الحزن».
لا أدرى ما الذى يدفعنى هذه الأيام إلى البوح بخبراتى العميقة، وهذه الأحداث العجيبة التى لا أدرى حتى اليوم هل مررت بها أم كنت أتوهم؟! هل أبوح لأتخفف؟ أم أبوح لأتحقق؟ على كل حال كنتُ أسير فى الجنازة التى لا أعرف اسم صاحبها. فقط أعرف شكله وملامحه، أبيض الوجه، قصير القامة، نحيف القوام، ويرتدى الجلباب الأبيض، كان يسكن فى الحى نفسه، وكنا نلتقى كثيرا فى المسجد، أو فى الطريق إليه، لم نتبادل الحديث يوما، ولكن كلينا كان يهز رأسه بالتحية إذا تلاقينا وجها لوجه.
الجنازة منتظمة فى طريق ملتوٍ وسط المقابر. والأقدام تدفع الغبار فتثير زوبعة من تراب، خُيّل إلىَّ أنها أفئدة وعيون. أفئدة كانت تنبض بالحب، وعيون تلمع بالفرحة. ثم ذهب الموت بالحب والفرحة والقلوب، حكم بات لا رجعة فيه.
رحت أتأمل نفسى كأننى أشاهد رجلاً آخر. لا مفر من الاعتراف بأننى - منذ بلغت الأربعين - وأنا أفكر فى الموت باستمرار. بالتأكيد هناك تفاعل ما هو الذى جعلنى أتقصى عن الميت، وأخمن شخصيته وأسير فى جنازته، مع أن علاقتى بالميت لا تتعدى هز الرأس، ولم أكن يوماً من هواة الجنازات.
صدقونى هذا ما حدث بالحرف الواحد، وإن كنت لا أجد له تفسيرا حتى الآن: كان الموكب يسير فى المقابر، وأنا غارق فى تأملاتى، حتى انتبهت فجأة إلى أن الرجل الذى يسير بجوارى يشبه الميت جدا. مثله أبيض الوجه، قصير القامة، نحيف القوام ويرتدى الجلباب نفسه! قلتُ لعله أحد أقاربه.
وانهمكتُ فى خواطرى المُعذبة: الموت نهاية كل حى، وكلنا أموات أبناء موتى. هكذا اعتدنا أن نقول فى مثل هذه المواقف، ولكن الشىء المُحيّر حقا هو: لماذا نموت؟. ولماذا نتعلق بالحياة طالما سنموت؟، وما معنى أن نعيش ونحن ننتظر الموت؟ أليس من الغفلة أن نفرح والموت يتربص بنا؟! أم أن الغفلة هى ألّا نفرح طالما الموت يتربص بنا؟. ليتنى أستطيع أن أُزيح الكفن وأسأل الميت، الذى لا أعرف اسمه، عن الجواب وأستريح.
أيها الرجل الذى أمشى فى جنازته ولا أعرف اسمه، ترى ما الذى شعرت به وأنت تموت؟
وانتهى الموكب إلى مدفن العائلة. المقابر كلها متشابهة، وتحمل طابع العزلة والتنائى والسلام العميق. القبور متشابهة مثل نهايتنا المتشابهة حتى لو تفاوتت حظوظنا فى الدنيا!
فيا أيها الموت المُحيّر الساخر من أحلامنا، خبرنا عن الذى تشعر به وأنت تقبض أرواحنا، هل تتشابه فى عينيك ملامحنا وردود أفعالنا؟ تشابه الملامح مدهش حقا! الرجل الذى يحفر القبر يشبه الميت! المُشيعون جميعا يشبهون الميت، لابد أننى أحلم، أو أتوهم، أو أن الموقف بأسره غير حقيقى! وإلا فكيف أصدق أن الجميع - حتى أنا - صاروا فجأة يحملون ملامح الميت نفسها، لونه وقامته ونحافته نفسها!
ونرتدى كلنا الجلباب نفسه؟! فهل ما نرتديه جلباب حقاً أم كفن! وهل يوجد تفسير لما يحدث سوى أننا موتى يدفنون ميتاً! لذلك تشابهت ملامحنا وإن تعددت الأسماء!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ