السبت، 4 فبراير 2012

الملك فؤاد.. وأوهام الخلافة بقلم د. رفعت السعيد ٤/ ٢/ ٢٠١٢


وكما كانت الخلافة الأخيرة تركية فقد انتهت على أياد تركية. وأعلن كمال أتاتورك إسقاط دولة الخلافة، ونفى الخليفة إلى منطقة نائية وينهض ولى الدين يكن، أحد أشهر دعاة الليبرالية فى مصر، وهو تركى الأصل، هاتفاً:
سلاما أيها النافى الرعايا ولا تجزع فخالقهم نفاكا
وما أنا شامت بك حين تبكى كمن شمتوا ولكن ذا بذاكا
وبالمقابل اجتمع بعض علماء الأزهر وأصدروا بياناً يؤكدون فيه «بطلان ما قام به الكماليون لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه» «محمد حسين- الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر- الجزء الأول- صـ٤٧».
ويرد عليهم شوقى شعراً:
مضت الخلافة والإمام فهل مضى
ما كان بين الله والعباد
والله ما نسى الشهادة حاضر
فى المسلمين ولا تردد شادى
والصوم باق والصلاة مقامة
والحج ينشط فى عناق الحادى
وكان موقع الخلافة الخالى قد أسال لعاب الكثيرين ومنهم ملك الأفغان أمان الله، وملك الحجاز حسين بن على، لكن الملك فؤاد قرر أن يكون الخليفة، فنسى الشيوخ الغاضبين من خلع الخليفة غضبهم، وقاموا بالدعوة لتنصيب الملك فؤاد خليفة وقرروا دعوة ممثلى جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يعقد فى القاهرة برئاسة شيخ الأزهر للبحث فيمن تسند له الخلافة ومكان وجوده، وحددوا شهر شعبان من العام التالى لانعقاده» (المنار- مجلد ٢٥- ١٩ شعبان ١٣٤٢هـ- ٢٥ مارس ١٩٢٤)، وتمضى عجلة الإعداد للمؤتمر مدعومة من القصر والأزهر وفى ربيع أول ١٣٤٣هـ (أكتوبر ١٩٢٤) تصدر نشرة باسم «المؤتمر» مهمتها الترويج لمؤتمر الخلافة، ويكتب الشيخ رشيد رضا فى صدر العدد الأول قائلاً «إن المؤتمر سيضم علماء الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية، خاصة أن مهمته هى وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية، التى يظهر فيها علو التشريع الاسلامى، واختيار خليفة وإمام للمسلمين». لكن المعادين للخلافة كانوا كثيرين فسعد زغلول رئيس الوزراء رفض الفكرة، وحلفاء الملك سياسياً من خصوم الوفد وهم «الأحرار الدستوريين» عارضوها وتكتب جريدتهم السياسة «إن الدستور ينص على أنه لا يجوز للملك أن يتولى مع ملك مصر أمور دولة أخرى بغير رضاء البرلمان، ومن ثم يتعين ترك هذه المسألة للسياسيين، وأن يكف علماء الأزهر عن دعوتهم» (السياسة- مارس ١٩٢٦)، وبرزت مطامع ملوك وأمراء لدول إسلامية ترفض تولى فؤاد، ويطلب كل منهم أن يكون خليفة. ثم ينهض شيخ أزهرى هو الشيخ على عبد الرازق ليكتب مقالاً فى السياسة يقول فيه «كانت مسألة الخلافة أولاً دفاعاً عن مقام معين يراد الاحتفاظ به كأثر يحتاج إلى العناية وكمريض يحتاج إلى الرعاية، لكن المسألة انتقلت إلى وضع آخر، واتجه الرأى إلى العمل لإيجاد مقام جديد، لأن أناساً يريدون أن يبقى فى الوجود ذلك الشىء» (السياسة- المرجع السابق). وهاجمت الصحف الوفدية المؤتمر الذى كان انعقاده إشهاراً لوفاة فكرة الخلافة، فالحضور هزيل والنتائج هزيلة، وفشل الملك فؤاد فى تحقيق طموحه. لكن البعض كان يظل ملحاً على فكرة الخلافة، وكان الشيخ على عبدالرازق، عضو هيئة كبار العلماء وهو ليبرالى الموقف، قد أصدر كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم»، الذى بدد فيه كل دعاوى أصحاب دعوة الخلافة ونقرأ فى الكتاب «الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة هى جميعاً خطط دنيوية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة» «صـ١٠٢» ويقول «إذا كان فى الدنيا شىء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم ويسهل عليه العدوان والبغى، فهو مقام الخلافة الذى معه لا شىء إلا العسف ولا حكم إلا السيف» «صـ٢٨» ويقول «إن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذى يسميه البعض (خلافة) و(خلفاء) فليس من حاجة إلى تلك الخلافة فى أمور ديننا ولا لأمور دنيانا .. فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد» «صـ٣٦». وقامت الدنيا ولم تقعد ضد الكتاب والكاتب. غضب الملك وغضب معه وله عديد من شيوخ الأزهر، وكتب رشيد رضا محرضاً «لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عن هذا الكتاب لئلا يقول صاحبه وأنصاره إن سكوتهم عنهم إجازة له، أو عجز عن الرد عليه» «المنار- ٢١يونيو ١٩٢٥» وسريعاً يصدر الشيخ الخضر حسين كتاباً بعنوان «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» وأهداه دون تردد إلى «حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر الأعظم طالباً منه حماية الشريعة بالحجة والحسام». وجاء الحسام عبر هيئة كبار العلماء بالأزهر التى استدعت المؤلف وحاكمته وصدر حكمها فى ١٢ أغسطس وقررت «نزع شهادة العالمية منه ومحو اسمه من سجلات الأزهر وطرده من كل وظيفة، لعدم أهليته للقيام بأى وظيفة دينية أو غير دينية»، وأسرع شيخ الأزهر ليبرق للملك بالحكم «شاكراً له غيرته على الدين من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وحفظ كرامة العلم والعلماء».
لكن القصة لم تنته، ففى عام ١٩٤٧ كان حزب الأحرار الدستوريين شريكاً قوياً فى الحكومة، وكان يرغب فى تعيين الشيخ عبد الرازق وزيراً، وبناء على أمر الدكتور محمد حسين هيكل اجتمعت هيئة كبار العلماء ومعها المجلس الأعلى للأزهر فى ٢٥ فبراير ١٩٤٧ ووجهوا رسالة للملك فاروق جاء فيها «إن المجتمعين يلتمسون من جلالة الملك وفضله غزير على الأزهر والأزهريين أن يتفضل فيعفو عن الأثر المترتب على الحكم الذى أصدرته هيئة كبار العلماء منذ ٢٢ عاماً»، وقبل الملك الالتماس وصدر مرسوم ملكى فى ٣ مارس ١٩٤٧ بتعيين الشيخ عبد الرازق وزيراً للأوقاف.
ونتأمل الحكاية كيف بدأت بأطماع ملك كان الأزهر وقودها، ثم انتهت بمرسوم ملك أراد مجاملة حكومة أقلية وكان الأزهر وقودها أيضاً.
لكن موضوع الخلافة يظل على الدوام محل خلاف مادام وُجِد له وقود من قوى متشددة ومتطرفة، ويتطاير شراره الآن بدعاوى بعض القوى السلفية وهو ما دفعنا إلى هذه الكتابة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ