السبت، 31 ديسمبر 2011

هل هى الفوضوية؟



  بقلم   رفعت السعيد    ٣١/ ١٢/ ٢٠١١
دفعنى ما يجرى حولنا والحالة الانفعالية التى يتعامل بها طرفا الصراع الدائر فى ميدان التحرير وما حوله من شوارع وأزقة إلى التأمل، وإلى استخلاص أننا إزاء حالتين من العنف المتبادل، السلطة من جانب وقطاع معين من الجماهير من جانب آخر.
وإذا كان يحلو للسلطة أن تشير دوماً إلى طرف ثالث باعتباره المحرض والممول والمحرك لعرائس من أطفال الشوارع والبلطجية، فإن كل التصريحات والاعترافات- التى لا يعلم إلا الله مدى صدقها أو تطابقها مع الواقع- لا تعدو أن تشير إلى تحريض بدائى ولا يمكنه بأى حال أن يفسر ما يجرى، فالاشتباكات التى تتوالى وتجسد رفضها بالعنف الجائر ويتعرض مرتكبوها للقتل أو الإصابات أو السجن، لا تفسرها رشوة مكونة من خمسين جنيها وعلبة سجائر ووجبة من ساندويتشات فقيرة.
هذا بالإضافة إلى كون الكثيرين من متظاهرى العنف ليسوا ممن يمكن رشوتهم أو استدراجهم أو إقناعهم مقابل خمسين جنيها أو أكثر. وهنا يثور سؤال ملح، من أين يأتى هذا العنف؟ ولماذا؟ للإجابة على هذا السؤال احتجت إلى سلسلة من الحوارات التى تبدت فى البداية وكأنها مملة أو مكررة أو مجدبة، لكنها تفتحت فى نهاية الأمر على فهم أخشى تماما أن يكون التفسير المنطقى لما يجرى.
استمعت بإمعان لعديد من هؤلاء الشبان. طبعا اخترت عينات ليست من أطفال الشوارع ولا من البلطجية، فهم بعيدون عن اهتمامى، لأنهم ليسوا العنصر الأساسى فيما يجرى، هم مجرد رتوش أتت ربما للتغطية على الحقيقة، أو لإظهارها فى غير صورتها الحقيقية. وألخص ثمار حواراتى فى عدة جمل موجزة.
هؤلاء الشبان يعانون حالة من الإحباط المتراكم فهم متعطلون، ومن أسر أقل من المتوسطة فى قليل من الحالات وأسر تحت خط الفقر فى حالات هى الأكثر عدداً.
هم يشعرون فى مجملهم بأنهم خدعوا، وأن ثورتهم سرقت منهم، وحتى الذين طمحوا إلى تمثيل الثوار فى مجلس الشعب فشلوا فى أحيان كثيرة ولم تفلت منهم إلا نماذج تستحق التأمل فى كيفية إفلاتها.
وهم خرجوا فى ٢٥ يناير من أجل دولة مدنية ديمقراطية عادلة فإذا بالثمار تأتى معاكسة تماماً، وإذا بالإخوان والسلفيين يتبارون فى احتجاز ضوء شمس الثورة بعيداً عن فضاء الوطن.
وهم يحملون المجلس العسكرى مسؤولية الصعود المتأسلم والصمت عليه وتشجيعه.
والميدان، الذى كان مزارا للثورة والثوار يحجون إليه كلما أرادوا أن يستمتعوا بدفء الجماهير، فقد بريقه فى جمعة قندهار، إذ تحول إلى شىء مختلف تماماً، رايات طالبانية وصور لبن لادن، وحتى عندما رحل عنه التتار المتأسلم تحول إلى سوق تفتقد المذاق الثورى وتفتقد الحماس والقدرة على الإبداع، ويختلط فيها البلطجية بالثوار.
وهم لا يصدقون كل ما يقدم لهم من وعود، وأكدوا عدم السماح باستخدام الشعارات الدينية فى الانتخابات.. وتركوها لتكون أساس الدعاية الانتخابية.
وضعوا حداً أقصى للإنفاق الانتخابى ولم ينفذ.
وعندما شعر محدثى بأننى أتململ قال يكفيك هذه العينة، وثق أنها مجرد عينة.
وبعد هذه الحوارات بدأت أقترب من بعض من الفهم، نحن إزاء شباب غاضب، رافض، لا يصدق، مقهور، عاطل، فقير، بلا مستقبل. ويتراكم ذلك كله فى أعماقه ليخلق مناخاً رافضاً لكل شىء، فأنا إذا ناقشتهم كانوا يرفضون، يرفضون. يرفضون ثم يتوقفون فإذا سألتهم: وماذا تريدون؟! لا يجدون إجابة أو يقدمون إجابات هشة وغير منطقية. وهنا أعود إلى التاريخ لأكتشف ثمار هذه الحالة من الرفض الكلى للمجتمع القائم بخيره وشره، بل الرفض لمجمل المنظومة الإدارية والحكومية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتشريعية.
وهم يؤكدون أنهم يواجهون عنف النظام بعنف مقابل ويؤكدون رفضهم حجج النظام بأنه يمتلك الحق فى فرض سطوة قانون هم يرفضونه ويرفضون من وضعوه، مؤكدين أنه لا شرعية لحق الدولة فى فرض نظامها عبر العنف أو حتى عبر القانون الذى يعتبرونه جائراً.
وذلك كله ليس ابتكاراً جديدا، بل هو سلوك يتسلل عبر توالى القهر المجتمعى والاقتصادى والسياسى إلى أعماق عديد من الشبان، فينقمون على المجتمع ككل وعلى منظومة قوانينه وسلوكه وأخلاقياته ويجردون النظام القائم من كل مشروعية.
وهذه الأفكار قد تبدو الآن غير مرئية، لكن التأمل المتأنى يكشف لنا أنها إرهاصات لحركة قد تكون جنينا، والويل لنا إذا انتشرت. والجنين يتبدى، ليس فى هذه الأحداث الدامية، وإنما أيضاً فى بداية خلق تنظيم فوضوى ربما كان جنينه هو الذى ملأ مداخل محطات المترو فى ميدان التحرير بالشعار التاريخى للحركة الفوضوية.
هل هى بداية؟ مجرد بداية؟ أخشى ذلك ويكفى أن أقرر أن واحداً من الفوضويين أراد إرباك المجتمعات الأوروبية فى صراعات دامية فاغتال ولى عهد النمسا، وكانت الثمرة هى الحرب العالمية الأولى التى قدمت البشرية على مذبحها خمسة ملايين قتيل ودمرت وهدمت دولاً عديدة وأعادت تشكيل دول أخرى، واعتبر الفوضويون أن هذا هو انتصارهم التاريخى الأكبر.
والسؤال الملح هو: هل الفوضويون قادمون؟ وهل سنمضى فيما نحن فيه فنمنحهم المساحة والقدرة على مزيد من الدمار.. أم نلجأ إلى الحل: العدل، الديمقراطية، الليبرالية، الدولة المدنية، المساواة، حق الاعتقاد، حقوق الإنسان، الشفافية، حق العمل، حق السكن، حق العلاج الطبى...إلخ.
أم أن البعض يفضلها فوضوية حتى يمارس ما يشاء، كما يشاء؟، ويبقى أن أقرر أنها مجرد إرهاصات لحفنة محدودة، فحذار أن نتركها حتى تنمو.
أرى تحت الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون له ضرام
فهل نتعظ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ