الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

عام الجسد الجديد

بدأ العام ٢٠١١ بشاب تونسى يضرم النار فى جسده فى العلن فى سيدى بوزيد، تلك المدينة التونسية المهمشة، وقامت الثورة فى تونس على رماد جسد محمد البوعزيزى وانتقلت النيران من جسد البوعزيزى إلى كل الجسد السياسى العربى إلا قليلاً، وها هو العام ينتهى بجسد فتاة مصرى يعريه جنود الجيش المصرى فى الشارع وفى قلب الميدان ولا نعرف ما الحريق الذى يليه، أم أن النيران لا تنتقل عدواها من أجساد النساء كما تنقلها أجساد الرجال؟ إنه على ما يبدو عام الجسد العربى حريقاً وتعرية.
الجسد والسياسة حالة عالمية ولكنها تتخذ منحى خاصا فى الحالة العربية، فمعركة الحداثة فى تركيا مثلا كانت على علامات الجسد ممثلة فى لباس الرأس (الطربوش)، الحال نفسه كان بالنسبة للباس ماو تسى تونج فى الصين، فما يوضع على الجسد أو ما يخلع عنه كلها رموز سياسية لها دلالتها، فالجسد هو لوحة الإعلانات الأولى فى معظم الحضارات.
عندنا اللحية والزبيبة والعمامة كلها رمزيات دينية فى أعلى لوحة الإعلانات، وهى رأس الإنسان، وعندنا الحجاب أيضاً وغالباً لا تتحدث الحضارات على أدنى اللوحة أو حتى وسطها، فليس هناك تحريم أو تجريم للبس الأحذية مثلاً من عدمه، لأن العين تعترف بما فى مستواها وما يقابلها، لذا تجد التشديد فى معظم الحضارات على الجزء العلوى من الجسد. النقطة الأساسية هنا هى أن الجسد سياسة وما قام به البوعزيزى فى تونس أو ما قام به الجنود فى مصر من تعرية جسد الفتاة كان فى صميم السياسة كما أن الحديث المصرى الذى انشغل بملابس الفتاة على حساب الجريمة هو حديث الجسد وحديث السياسة فى ذات الوقت.
الجسد هو حكاية العرب الأولى والأخيرة فى السياسة والثقافة هو مركزية التناقض العربى، هو المقدس والدنس فى ذات النفس وذات الجملة وذات الرجل وذات المرأة، وفى حرقه إنهاء لهذا التناقض كما فى تعريته أيضاً وسيلة أسهل للقضاء على ذات التناقض. جسد المرأة وجسد الرجل وجسد السياسة وجسد الوطن كلها مدنسة فى الصباح ومقدسة فى المساء أو العكس.
 إنها مأساة العرب الأولى هى مأساة الجسد. من حالة الخلط ما بين جسد المرأة وشرف القبيلة والعائلة إلى تفخيخ الجسد كحالة استشهادية جهادية شهدناها فى فلسطين والعراق، إلى ضرب الجسد فى احتفالات الشيعة إلى التعذيب فى السجون إلى الرجم وإلى جرائم الشرف كلها معضلة جسد. وإذا كان الأمر كذلك فما الذى يجعل هذا العام عام الجسد، إذا كان للقصة أبعاد عالمية وكذلك أمور سبقتها محليا؟ الإجابة ببساطة هى أن الصور الجسدية هذه المرة تناقلها بوسائل الإعلام الحديثة جعلها أكثر تركيزا وتعظيما، وكان آخرها تلك الصورة للفتاة المصرية العارية تماماً المتداولة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت). كانت سياسة الجسد فى السابق محصورة فى حدث صغير أو محدود، أما هذا العام فتأثير الجسد أحدث ثورات وحشد الملايين فى الشوارع من النساء والرجال جميعهم مدفوعون بسياسة الجسد فى قلب جسد السياسة. ومن هنا جاءت الخصوصية هذه المرة.
فك الارتباط مع إشكالية الجسد هو بداية تفكيك الحالة الثقافية والسياسية. فض الاشتباك مع ما يشدنا كثيراً إلى الأرض ويثقل خطانا هو ما قد يأخذنا إلى المرحلة الثانية، إما عقلانية أو روحانية ولكنها منطقة ومجال أعلى من مجال الجسد الذى بقينا فيه لقرون طويلة. الجسد هو الثلث المعطل للحياة العربية سياسيا وثقافياً. يأخذ منا حيزاً أكبر فى الحوار مما يجب ويجعلنا حضارة مظهر لا حضارة جوهر. نركز كثيراً على كل ما هو معروض على لوحة الإعلانات البدائية الأولى حجاباً ونقابا وزبيبة ولحية ولباسا. كل هذا يجعل النفاذ إلى عوالم العقل والنفس والروح أمراً صعباً بالنسبة لنا. لو كانت هناك ثورة حقيقية ستقوم يوما ما فى عالم العرب فهى ثورة فض إشكالية العربى مع الجسد وحسم أمره تجاهه: هل هو مقدس أم مدنس؟
هل هو مركزية الفضيلة أم بؤرة الرذيلة؟ كى ننتقل إلى فضاءات أرحب وحتى لا نكون مشدودين دائماً بثقل المادة إلى الأرض دونما أن نحلق فى مدارات أسمى، فالحياة واحدة والبقاء كل هذه القرون فى سجن الجسد ربما هو ما أوصل البوعزيزى إلى إضرام النار فيه دونما وعى منه، وربما هو الأمر ذاته الذى حرك الجموع إلى الشوارع والشاشات لمناقشة قضايا الجسد. يتحرر جسد السياسة فقط عندما يتحرر الإنسان من أعباء الجسد وذلك ينطبق على كل الحضارات، والحضارة العربية ليست الاستثناء فى ذلك، وإن كانت تبدو كذلك فلن يدوم الاستثناء كثيراً. البوعزيزى وفتاة الميدان رمزيات لأمور أكبر وأعمق ويجب أن نتأملها بعمق.
لم يكن يقصد البوعزيزى إشعال ثورات من تونس مروراً بليبيا ومصر واليمن وسوريا، وبالتأكيد لم يكن يقصد الجنود فى مصر أن يشعلوا ثورة الجسد التى قد تحدث أو لا تحدث، ولكنه قانون التبعات غير المقصودة للأحداث والتى غالباً ما تدهشنا وتفوق توقعاتنا. فهل يحمل إلينا العام الجديد مزيداً من الدهشة؟
أعتقد ذلك فالعرب الآن، رغم كل ما نرى من حولنا، هم فقط على حافة الدهشة ولم يجرفهم التيار إلى مركزها بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ