السبت، 31 ديسمبر 2011

أرشيف الزمان


٣١ ديسمبر.. الحادية عشرة مساء.
كان الليل قد أوغل. والسيارة تقطع الطريق الذى لا ينتهى. وأغلب من فى السيارة قد ناموا فيما عدا ذلك الرجل الجالس جوارى، ويبدو عليه القلق. لم أستطع أن أتبين ملامحه بوضوح بسبب الظلام السائد. الشىء العجيب أنه يبدو كأنه يكتب، رغم أنه لا يمسك ورقة ولا قلماً. لكن حركات يده تقول إنه يكتب. فهل هو مختل العقل مثلا؟ ابتعدت بجسدى عنه فى حذر.
الحادية عشرة والربع مساء!
كان الصمت مهيمنا، والليل قد ازداد غموضا وعمقا، لكن هذا الجالس جوارى مازال يكتب فى ورقته الوهمية. سألته وقد تغلب فضولى على حذرى: «ماذا تكتب؟». بمجرد أن كلمته نظر إلىّ مذهولا وكأنه لا يصدق! قال هامسا: «هل تكلمنى؟». قلتُ باسما: «نعم! أراك تكتب دون ورقة وقلم، فأحببت أن أعرف الحكاية؟». عاد يردد فى ذهول: «هذا معناه أنك ترانى! أليس كذلك؟». قلت وقد تأكدت أنه ليس على ما يرام: «وهل هذا غريب؟». راح يهز رأسه يمينا وشمالا، وهو يقول: «مذهل! مذهل!».
وساد الصمت لدقائق. كانت الساعة تناهز الحادية عشرة والنصف مساء، والسيارة تهتز، والأضواء البعيدة الخافتة تلوح متناثرة فى الطريق. ترى ما الذى يعنيه ذلك الجار غريب الأطوار؟ قلتُ محاولا أن أزجى الوقت: «حضرتك من هنا؟». بدا مترددا بشكل لا يتحمله سؤالى! ثم قال بصوت مبحوح: «أنا من كل مكان، وفى كل مكان!».
إذن فهى النغمة القديمة. مرة قابلت عجوزا ادّعى أنه مخلوق فضائى! على كل حال هو يبدو غريب الأطوار ومسالما. سألته: «ما عملك؟». قال بعد تفكير عميق: «يمكنك أن تعتبرنى رئيس أرشيف! هذا أقرب شىء لفهمك».
الثانية عشرة إلا بضع دقائق.
كان الأمر قد صار مسليا. يا ليتنى حادثته من البداية وقطعت الطريق الطويل معه بالسمر. عقارب الساعة تتحرك صوب العام الجديد. الدقائق الفاصلة بين عام مضى وعام قادم. أليس غريبا أن أقضى هذه اللحظات فى سيارة تنهب الطريق بسرعة، تشق الليل المظلم مع غرباء لا أعرفهم! ولكن أليست رحلة الحياة كلها كذلك؟
سألته: «أى أرشيف تقصد؟»، بدا مترددا للحظات، ثم قال هامسا: «ما دمت قد رأيتنى فهذا معناه أننى مأذون لى أن أخبرك. أنا رئيس أرشيف الزمن، المُوكّل بأرشيف كل إنسان على وجه الأرض، أسجل كل شىء فعلته خلال هذا العام. أنا موجود فى هذه السيارة وموجود فى كل مكان. لا أفعل شيئا سوى أن أكتب وأكتب. الناس لا ترانى، أنت فقط رأيتنى لحكمة لا أعلمها! ربما لتخبر الآخرين بوجودى. ينسى الناس كثيرا وجودى. يتناسون أننى أكتب وأكتب. كل ما قالوه أكتبه. كل ما فعلوه أسجّله. وفى نهاية كل عام أختم الملف وأضعه فى الأرشيف حتى يتم استدعاؤه».
قلت وأنا أرتجف من الخوف: «كل شىء مكتوب؟». قال وعيناه تتسعان رعبا: «كل شىء مُسجّل بالكلمة! بالصوت والصورة». قلتُ فى قلق: «ماذا عنى أنا؟ هل ورقتى سيئة؟». غاص فى مقعده وهو يهمس: «أسوأ مما تتصور».
قلت وقد أصابنى الرعب: «طيب هل تعرف ماذا سيُفعل بالأرشيف بعد ذلك؟». قال فى رثاء: «ماذا سيفعلون؟ المحاسبة طبعا! وإلا فلماذا أكتب؟!».
وساد الصمت تماما، وقد أصابتنى رعدة من فكرة «الحساب» القادم. الفكرة التى كانت كلما خطرت على بالى أتجاهلها، ولكن جارى الغريب وضعها أمامى. آه يا ليتنى قد أخذت حذرى! يا ليتنى متُ قبل هذا!
كانت السيارة قد وصلت الموقف، تعالى ضجيج الحياة المألوف، ونظرت حولى فى السيارة، حتى أسأله ما الذى أفعله لأنجو! فوجدته قد اختفى تماما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ