الخميس، 29 ديسمبر 2011

التأصيل الحضارى للتشريع الإسلامى: توثيق الحجة

د. على جمعة مفتى الجمهورية
رسم المجتهدون العظام طريقاً واضحاً لتأصيل التشريع الإسلامى تأصيلاً حضارياً يعكس النسق المفتوح لدين الإسلام ويؤكد عالميته وشموليته لكل الأزمان والأماكن ليكون بحق دين الله الخاتم للعالمين، وكانت الخطوة الأولى لهذا الطريق هى تحديد الحجة وهى بإجماع جمهور العلماء القرآن والسنة معاً فلا يكفى أحدهما دون الآخر، ثم يأتى بعد ذلك السؤال الثانى وهو كيفية توثيق هذه الحجة، فإذا كان الكتاب والسنة المصدرين للتشريع الإسلامى، فكيف وصلا إلينا؟
أما الكتاب فقد وصل إلينا بالتواتر لم يختل فيه حرف واحد، بل قد حُفِظ حتى على مستوى الأداء الصوتى للحروف ومخارجها، وكذلك الكلمات وطريقة نطقها، ونشأت عدة علوم للحفاظ على هذا الكتاب الكريم كما هو، منها: علوم النحو والصرف، والقراءات، والتفسير، بل علوم اللغة كلها، حتى إن المعاجم العربية إنما وُضعت للحفاظ على هذه البيئة التى منها ذلك الكتاب العظيم.
ولم يحدث فى العالم أن حفظ الأطفال كتاباً مقدساً أو غير مقدس كما فعل ذلك أطفال المسلمين فى الكتاتيب والمنارات، ولم يحدث أبداً أن حفظ غير الناطقين بلغة ما نصاً مقدساً بطول القرآن، وهم لا يعرفون لغته، ولا يفهمونها، ولايزال أحدهم مع صغر سنه وعجمة لسانه يقوم بقومه بالقرآن فى الصلاة، ولا يخطئ منه حرفاً.. إنها معجزة ربانية واضحة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أما عن السنة فقد بذل المسلمون جهداً مبدعاً وغير مكرر فى توثيق كلام النبى، صلى الله عليه وسلم، فأنشأوا علوماً كثيرة، ولم يحدث مثل ذلك أبداً لأى نبى أو مفكر أو عالم أو شاعر أو أديب فى تاريخ البشرية، فهو أمر فريد اختص به كلام النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ويحسن بنا أن نفصل كيفية التوثيق فى عهد الصحابة والتابعين دلالة على ما حدث بعد ذلك فى العصور التالية وإلى يومنا هذا، حتى يعلم الناس بعض الذى حدث، ودقته، وكيف اتبع المسلمون المنهج العلمى بما لا مزيد بعده من الدقة.
كان للصحابة، رضوان الله عليهم، عناية شديدة فى رواية الحديث ونقله، فقد وضعوا بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه، صلى الله عليه وسلم، وإن لم تدوَّن فى عصرهم، ومن تلك الضوابط: الاحتياط فى قبول الأحاديث بالتحرى، وكان أول من احتاط فى قبول الأخبار أبا بكر الصديق خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: «جاءت الجدة إلى أبى بكر رضى الله عنه تسأله ميراثها فقال لها أبوبكر: ما لك فى كتاب الله شىء، وما علمت لك فى سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شيئاً، فارجعى حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعطاها السدس، فقال أبوبكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبوبكر الصديق رضى الله عنه» (رواه أحمد فى مسنده والنسائى فى سننه)، فكانت رؤية أبى بكر، رضى الله عنه، هى التثبت فى الأخبار والتحرى، لا سد باب الرواية مطلقاً.
ثانى تلك الضوابط: التوقف فى قبول خبر الواحد والتثبت من نقله، وبذلك الضابط تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فعن أبى سعيد الخدرى قال: «كنت جالساً فى مجلس الأنصار، فأتانا أبوموسى فزعاً أو مذعوراً. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلىَّ أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثاً فلم يرد على، فرجعتُ. فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إنى أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثاً، فلم يردوا على، فرجعت وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك. فقال أُبَىُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبوسعيد: قلت أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به» [رواه مسلم فى صحيحه].
فرأى عمر رضى الله عنه أن عليه أن يتأكد عنده خبر أبى موسى بقول صحابى آخر، وهذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفى ذلك حثٌّ على تكثير طرق الحديث لكى يترقى من درجة الظن إلى درجة قريبة من العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهَم وذلك نادر على ثقتين.
ومن ضوابط النقل عند الصحابة سمة تسمى «اللقيا والسماع» وقد اشتهر «البخارى» بأنه هو الذى اشترط هذا الشرط فى صحيحه مما جعل صحيحه أعلى كتب السنة توثيقاً وضبطاً.
إلا أن الصحابة سبقوا «البخارى» فى الاهتمام بهذا الشرط، ففى رحلة جابر بن عبدالله رضى الله عنه إلى عبدالله بن أنيس فى مصر لطلب حديث واحد دليل على ذلك، حيث كان بإمكانه أن يرسل له رسالة أو يحصل على الحديث بأى شكل بغير لقاء، إلا أنهم اعتنوا باللقاء والسماع حتى يثبت النقل يطريقة أوثق.
ومن الضوابط كذلك: عرض السنة على القرآن الكريم، وعرض السنة على السنة، وعرض السنة على القياس، ومن ذلك ما روى عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، رضى الله عنه، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «الوضوء مما مست النار ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ - وهى القطعة من اللبن المجفف المتحجر - قال : فقال ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟» (رواه الترمذى).
فكل هذه الضوابط وغيرها مما اعتنى به الصحابة فى نقل السنة النبوية المشرفة إنما يشير إلى مدى اهتمام الصحابة، رضى الله عنهم، برواية الحديث والعناية به وصيانته وتوثيقه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ