الخميس، 29 ديسمبر 2011

راية بلا غاية !!


بقلم :محمد أبو كريشة
Mabokraisha@yahoo.com
Mabokraisha@hotmail.com
قد نوافق مرغمين علي أن الغاية تبرر الوسيلة. كما قال ميكيافيللي.. يعني أن الدواء مُر مرارة العلقم.. ولا يُطاق طعماً ولا رائحة. لكننا مرضي ونسعي للشفاء.. أو قل.. للعلاج. لأن العلاج بيد البشر. لكن الشفاء بيد الله وحده.. وقد ذم الناس كثيراً الميكيافيللية. أو مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".. لكنني لا أذمه علي طول الخط.. بل لا أذمه أبداً. وأراه مبدأً عظيماً بشرط أن تكون الغاية نبيلة وسامية.. وكم من غايات نبيلة لا يمكن إدراكها إلا بوسائل مُرَّة كالحنظل. أو بوسائل مكروهة. "كتب عليكم القتال وهو كُره لكم. وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خيرى لكم".. فالغاية إعلاء كلمة الله ونُصْرَة الحق. ونشر الدين والأخلاق.. والقتال وسيلة مُرة ومكروهة لإدراك تلك الغاية.. لكن المرء الذي أتاه الله اليقين والحكمة والتقوي. يثق بالله ولا يثق بمشاعره وعواطفه.. فقد أكره ما فيه خير لي. وأحب ما هو شر لي.. قد أحب شيئاً فيه موتي. وأكره شيئاً فيه حياتي. والله تعالي يقول: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا".. فنحن لا نعرف ولا نعلم. والله وحده يعلم السر وأخفي.
وقصص الحب والغرام الملتهبة قد تؤدي إلي كوارث لأطرافها.. رجل يحارب الدنيا كلها للفوز بامرأة يموت فيها.. وينتصر ويتزوجها فتقتله أو يقتلها.. وكأنه أحبها وحارب الدنيا من أجلها ليموت قتيلاً أو يعيش سجيناً.. والإسلام ليس دين السلام كما يقال.. واسمه ليس مشتقاً من السلام كما يزعمون.. لكنه يعني الخضوع التام والانقياد الكامل لله عز وجل. بلا نقاش ولا جدال. ولا تأويل.. حتي يكون هواك تبعاً لما جاء به رسول الله "صلي الله عليه وسلم".. تترك قيادك لله. فيأخذك إلي حيث يريد هو لا إلي حيث تريد أنت.. ودائماً يأخذك إلي خير نفسك.. بينما تأخذ أنت نفسك إلي حتفها وشرها.
في هذه الحالة قد تكون الوسائل مُرة. وموجعة. والطرق وعرة وخطيرة. لكن الغاية نبيلة وعظيمة وسامية وتستحق.. وهنا يكون مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" عظيماً.. والمأساة ليست في سوء مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".. لكن مأساة مصر دوماً والأمة العربية عموماً هي عدم وجود غاية أو غايات عامة سامية.. وإذا وجدت فإنها غايات شخصية أو فئوية رخيصة. وقذرة.. مأساة العرب عموماً والمصريين خصوصاً أنهم يجعلون الوسائل في حد ذاتها غايات ويقفون عندها بلا حراك.. لذلك لا يصلون أبداً.. خذ مثلاً: المشي.. المفترض أنه وسيلتي لبلوغ هدفي أو المكان الذي أود الوصول إليه.. تخيل أن المشي في حد ذاته أصبح غايتي.. ساعتها لن أصل أبداً. وسأظل ماشياً وسعيداً بالمشي.. وإذا وصلت إلي نهاية الطريق أعود أدراجي لأواصل المشي.. بل إنني أكره الوصول لأنه حرمني من غايتي وهي المشي.
كل أفعال المصريين والعرب وسائل تحولت إلي غايات. وتلك هي المشكلة علي رأي هامليت.. وكل أفعال الأمم الأخري غير الأمة العربية المنكوبة وسائل لغايات عليا.. لذلك يصلون ولا نصل.. يبلغون الهدف ولا نبلغ.. يتقدمون ونتراجع ونتقهقر.. ينجحون ونفشل.. يزدادون علواً ونزداد انحداراً وتردياً.. يتغيرون إلي الأفضل ونحن لا نتغير أبداً أو نتغير إلي الأسوأ.. يتفقون ونختلف ونتعارك ونتناحر حتي يضيع الوقت والعمر في كلام فارغ.
انظر إلي كل أحوال المصريين والعرب.. انظر بعين المتأمل الواعي لتضع يدك علي بيت الداء العُضال. وموضع الجرح القاتل.. المأساة المأساة. والملهاة الملهاة. يا أصدقائي الأعزاء رشا ووفاء سيد.. من سمالوط بالمنيا. والأستاذ محمود رمضان البرام.. الإمام والخطيب والمدرس بوزارة الأوقاف. "عذراً للخطأ في الاسم بالمقال السابق".. والمهندس إسماعيل العوضي. وخالد عبادي المترجم بمصلحة الضرائب. ومحمد نواره. وسعد نبيه صابر من الرحامنة بالبحيرة.. "الخيبة التي بالويبة" أن كل هذا العراك بين المصريين وكل هذه الجعجعة التي بلا طحن "والهيصة والزمبليطة" في الأرض والفضاء والصحف والميادين ليست علي غاية أو غايات. ولكنها علي وسائل. فلا توجد لدي المصريين غايات.. وبلغنا من الغباء حد الوقوف عند الوسيلة بوصفها غاية.. وانقسمنا إلي شيع وأحزاب وميادين وملل ونحل ومذاهب وطوائف من أجل وسائل تحولت إلي غايات.. الحوار بيننا لم يعد وسيلة للوصول إلي الحقيقة. لكنه تحول إلي غاية.. لذلك نتحاور إلي ما لا نهاية. وبلا جدوي.. بالضبط كما نمشي بلا هدف ولا هدي.. لا توجد في بلدنا غايات ولكن الوسائل نفسها غايات. لذلك نسمع جعجعة ولا نري طحناً. لأن الجعجعة صارت غاية.. لذلك تبدو كل جنازاتنا حارة. بينما الميتون كلاب.. الوسائل التي صارت غايات جعلتنا قوماً بلهاء وأغبياء.. ونحن نموت من أجل وسائل لا من أجل غايات.. والذين يموتون قتلي من أجل وسائل ليسوا شهداء.. والله تعالي أعلي وأعلم.. لكنني لا أري مصرياً يناضل من أجل غاية.. بل أري الكل يناضل من أجل وسائل.
* * * *
كل ما ينبغي أن يكون وسيلة لغاية عظمي تحول هو نفسه إلي غاية.. فالثورة وسيلة للتغيير إلي الأفضل.. لكنها عندنا تحولت إلي غاية.. الثورة للثورة مثل الفن للفن.. تحولت إلي صنم نعبده ونسجد له ونقدم له القرابين. لذلك فشلت ثوراتنا وصارت هباء منثورا. وجعجعة بلا طحن.. ولا يحدث التغيير إلا إلي الأسوأ.. الثورة صارت مشياً بلا هدف إلي ما لا نهاية.. وصار نقد الثورة عيباً في الذات الصنمية التي صنعها أصحابها وعبدوها.
ولأن ثوراتنا تحولت من وسائل إلي غايات. فإنها دائماً تتمخض وتلد فئراناً. وقوارض تملأ الميادين وتهلك الحرث والنسل.. ولأن الثورة صنم فإننا ننسب إليها كل شيء.. برلمان الثورة.. مصر الثورة.. وزير الثورة.. رئيس وزراء الثورة.. شهيد الثورة.. مصاب الثورة.. والمفترض ألا ينسب أي شيء أو أي شخص إلي وسيلة.. بل ينسب إلي غاية.. لكننا أغبياء وجعلنا الوسيلة غاية. فخاب سعينا.
لماذا نقول لمن يتولي منصباً "مبروك"؟!.. لماذا نهنئه ونحتفل به ونوزع له "الشربات"؟!.. لأن المنصب الذي ينبغي أن يكون وسيلة تحول عندنا إلي غاية.. والوصول إليه هو نهاية المطاف. ولا توجد رسالة ولا غاية ولا مهمة.. ولا نشعر بعبء المسئولية وجسامتها. ومرارة التكاليف.. فالمنصب وجاهة وتشريف وتربح.
العمل الإعلامي والصحفي ينبغي أن يكون وسيلة لتبليغ رسالة وحمل أمانة.. لكنه تحول عندنا إلي غاية وهدف من أجل الوجاهة والمنظرة.. والتربح والشهرة.. ولا توجد لدي الناس في بلدي سوي غاية واحدة رخيصة وقذرة. هي الفلوس والنجومية.. والمفترض عند الأسوياء أن الفلوس والنجومية وسيلة لنقل الرسالة والأمانة.
الانتخابات البرلمانية تحولت إلي غاية. بينما يفترض أن تكون وسيلة لغاية عظمي.. ونحن نحتفل بالانتخابات كأنها نهاية المطاف. ونطلق عليها عُرس الديمقراطية.. بينما قد تكون مأتم الديمقراطية.. المهم عندنا هو الشكل والمنظر. ولا يعنينا اللب والجوهر.. نحن نحتفل بالإقبال الحاشد علي صناديق الانتخابات ونعتبر ذلك غاية.. لكننا لا نحلل هذا الإقبال. ولا ندرك في غمرة الفرح بالوسائل أنه إقبال لا ينم عن وعي سياسي بقدر ما ينم عن تطرف ديني. وتصويت طائفي. ونعرة تشددية ينبغي أن تخيفنا ولا تسعدنا.. ينبغي أن تزعجنا ولا تفرحنا.. التصويت في الانتخابات كان جهادياً. ولم يكن سياسياً.. ونتائج الانتخابات تؤكد أن الناس اندفعوا وراء انفعالاتهم لا وراء وعيهم.. وهذا ليس طعناً في المرشحين الفائزين.. لكنه طعن في الناخبين الذين يدل إقبالهم الكاسح في رأيي علي اللاوعي لا علي الوعي.
والمصريون ليسوا متدينين بطبعهم كما نتوهم.. وكذلك كل العرب ليسوا متدينين بطبعهم.. لكنهم منافقون بفطرتهم.. وهناك ظاهرة نفاقية مقيتة رصدتها بتأني خلال الأيام الماضية.. فقد لاحظت أن كل زملائي من الإعلاميين والصحفيين غيروا نغمات هواتفهم المحمولة... وكلما اتصلت بأحدهم أسمع قبل رده أدعية أو مواعظ. أو موت أذان. أو في بعض الأحيان أغاني وطنية.. وهؤلاء كانت نغماتهم من قبل أغاني لنانسي عجرم أو هيفاء وهبي. أو تامر حسني.. فجأة تديين الموبايل وآلات تنبيه السيارات. وأجهزة الكاسيت في الميكروباص والأكشاك.. بينما لم يتدين الأشخاص أنفسهم. ومازال بعضهم يسب الدين والملة. ويقبل الرشوة والعمولات ويخالف قواعد المرور ويشتم المارة والركاب.. ويمارس البلطجة الجسدية والإعلامية والفكرية.
الناس في بلدي شعروا بقرون استشعارهم النفاقية الخسيسة أن التيار الإسلامي المتمثل في الإخوان والسلفيين هو الذي ركب البلد. فسارعوا بنقل العطاء والانتقال من حالة نفاقية إلي أخري. واختصروا الحكاية كلها في نغمات موبايل متدينة. أو كاسيتات تلاوة القرآن.. الناس في بلدي ليسوا متدينين. ولكنهم منافقون وباحثون عن جزء من الكعكة.
* * * *
الناس في بلدي لا يفهمون.. ويظنون أن السلفيين والإخوان سيقودون أو هم قادوا بالفعل انقلاباً دينياً إسلامياً وأنهم سيحاربون السياحة ويجبرون السياسة علي إطلاق لحيتها.. وهذا تسطيح مخل.. لأن أي دولة في العالم لم تعد سيدة قرارها.. ولم تعد هناك سوي سيادة ظاهرية لأي دولة.. بينما كل حكومة أو سلطة في الدولة تشبه الاتحاد المحلي لكرة القدم الذي يخضع تماماً للاتحاد الدولي ولوائحه. وقواعده.. والاتحاد المحلي الذي يخالف "الفيفا" يتم تجميد نشاطه. أو حله.. وكذلك السلطة في أي بلد بالعالم ليست مطلقة اليد.. فهناك قوة عظمي تقود العالم بإرادتنا أو رغماً عنا.. وهناك فزاعات الحريات الدينية والأقليات وحقوق الإنسان.. وهي كروت صفراء أو حمراء يتم رفعها في وجه السلطة المتمردة.
والواقع يقول إن التيار السلفي هو الذي يحكم في دول الخليج مثلاً.. ومع ذلك فهو متناغم جداً مع قواعد النظام العالمي التي تحددها أمريكا وإسرائيل وحدهما.. وهو متوافق للغاية مع فزاعات الحريات الدينية والأقليات وحقوق الإنسان.. والإخوان يحكمون في الأردن والمغرب وتونس وتركيا ولم يحدث شقاق بينهم وبين الاتحاد الدولي للسياسة الذي تقوده أمريكا.. وأمريكا نفسها يبدو من المتأمل لسياستها الحالية أنها عدلت عن منهج المواجهة مع الإسلاميين واستبدلت به منهج الاحتواء والاستئناس.. علي أساس أن المواجهة أدت دائماً إلي تقوية الإسلاميين وانتشارهم. بينما يؤدي الاستئناس والاحتواء إلي ذوبان الإسلاميين في قواعد اللعبة الدولية.. وقد أتي الاحتواء والاستئناس أكله في الخليج وتركيا والأردن والمغرب. بينما فشلت سياسة المواجهة الدامية مع الإسلام في العراق وأفغانستان.
وستلجأ أمريكا عبر إسرائيل إلي الضغط علي التيار الإسلامي في مصر لاختبار مدي قدرته علي التناغم و"تمشية الحال".. وسنشهد في الفترة القادمة تزايد الاستفزازات الإسرائيلية من خلال سلوكيات المتطرفين اليهود وعمليات الهدم في المسجد الأقصي. والإساءة للرموز الإسلامية.. وكل هذا من أجل اختبار التيار الإسلامي الحاكم في مصر والذي سيجد نفسه مضطراً إلي الاكتفاء بمفردات وبيانات الاستنكار والشجب والإدانة التقليدية التي إذا تجاوزها فإنه سيتعرض للإقصاء عن طريق فزاعات الحريات والأقليات وحقوق الإنسان.. فالتيار الإسلامي ليس أمامه سوي خيار من اثنين.. إما التناغم مع قواعد الاتحاد الدولي للسياسة. أو الرحيل.. والسلطة حلوة وليس بمقدور أي عربي ذاق حلاوتها أن يتركها من أجل عيون الأقصي أو القدس.. والخلاصة أن مساحة الحركة للتيار الإسلامي أو أي تيار حاكم في العالم خصوصاً في الدول العربية ذات السيادة الوهمية محدودة للغاية.. وتشبه تماماً المساحة التي يتحرك فيها اتحاد الكرة المحلي.. ولذلك فإن القول بأن التيار الإسلامي مهما كان اسمه سيحدث انقلاباً سياسياً أصولياً في مصر.. قول ساذج للغاية.. وسؤال الناس للسلفيين عن السياحة وموقفهم منها. ومن المسيحيين ومن النقاب والحجاب سؤال غبي.. وحتي إذا قال السلفيون إنهم سيحاربون السياحة والسفور. وسيفرضون الجزية علي المسيحيين. فإن هذا "كلام في الوسع. وفي السهراية وعلي الشاطئ".. وحتي إذا كانت هذه قناعاتهم. فإنهم لن يستطيعوا تطبيقها.. وإذا لم يساوم التيار الديني عندما يخوض بحر السياسة والسلطة. فليس أمامه سوي الرحيل طوعاً أو كرهاً.. والتيار الإسلامي مثله مثل أي تيار آخر علماني أو ليبرالي أو فاسكوني في مصر ليست له غاية عظمي وسامية.. ولكنه مشغول بالوسيلة التي صارت غاية وهي السلطة والحكم.. كل التيارات في مصر تتصارع علي الوسيلة.. ولا توجد لأي منها ولا غاية!!.. وكل الأسماء والعناوين التي تعمل تحتها هذه التيارات.. مجرد راية بلا غاية!!!
نظرة
المجلس الاستشاري اجتمع.. المجلس الاستشاري انفض.. فهو حتي الآن ليس سوي مجلس تطييب خواطر.. ومجلس طبطبة.. وهو تجمع لدراويش ومجاذيب
السياسة والثورة.. ومرشحو الرئاسة يجدون فيه فرصة جيدة للدعاية.. والذين يريدون أن يسجلوا اعتراضهم علي أمر ما ينضمون إلي المجلس الاستشاري ثم يستقيلون منه.. هناك من ينضم ليستقيل حتي يقال إنه صاحب موقف.. والاستقالة من المجلس الاستشاري ليست ورقة ضغط لأن المجلس نفسه ورقة توت. أو ورقة تواليت.. والمجلس الاستشاري مجرد وسيلة تحولت إلي غاية. ولم نعد معنيين باختصاصاته ولا تأثيره. ولكننا فقط معنيون بالاحتفال والذكر في مولده.. "شيء للَّه يا سيدي الاستشاري!!".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ