الأحد، 25 ديسمبر 2011

المشكلة والحل بقلم د.حسن نافعة

سبق أن نبهنا مراراً وتكراراً إلى فجوة الثقة التى كانت قد بدأت تظهر، عقب خلع الرئيس السابق مباشرة، بين مجلس عسكرى يمسك بزمام السلطة ويصر على إدارة المرحلة الانتقالية بمنهج إصلاحى يستهدف ترميم النظام القديم، تمهيدا لإعادة تأهيله والتمكين له من جديد، وبين قوى سياسية واجتماعية تريد تغيير بنية وسياسات النظام القديم، وليس مجرد إصلاحه، تمهيدا لبناء نظام ديمقراطى جديد يتسع للجميع ويسمح بتداول السلطة وبحماية حقوق الإنسان المصرى ويحافظ على حريته وكرامته. غير أن التأخر فى تشخيص أسباب الفجوة وفى معالجة جذورها ساعد على اتساعها تدريجيا، وتسبب فى اندلاع أزمة حادة راحت تتفاقم إلى أن انفجرت فى وجه الجميع، فسالت دماء غزيرة وجرت انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان، وارتفعت شعارات مدوية تطالب بإسقاط المجلس العسكرى ونقل السلطة فورا إلى مؤسسات مدنية.
لا أظن أن هناك وطنيا يمكن أن يقبل بتوجيه إساءة من أى نوع إلى الجيش المصرى كمؤسسة، لأن تاريخه الوطنى كان ولايزال مشرفا ولأن دوره فى حماية الثورة كان ولايزال مقدرا ولا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه، مهما حدث. كما لا أظن أن هناك وطنيا يمكن أن تكون له مصلحة فى مواجهة تقع بين الشعب والجيش، لأن نتائجها ستكون وخيمة على الجميع وستنتهى حتما بتقويض الدولة وانهيار المجتمع.
 ورغم صعوبة الفصل بين الجيش وقيادته، التى لا يجوز لأحد أن ينكر دورها الشخصى فى حماية الثورة، إلا أنه يتعين أن ندرك فى الوقت نفسه أنه لا أحد فوق النقد وأنه يتعين إخضاع كل من يتصدى لدور سياسى، سواء ارتدى زيا مدنيا أو عسكريا، للمساءلة والحساب. ورغم ارتكاب جميع أطراف المعادلة السياسية فى مصر أخطاء جسيمة خلال المرحلة الانتقالية، إلا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بحكم احتكاره سلطتى التشريع والتنفيذ، يتحمل النصيب الأكبر من المسؤولية عما وصلت إليه الأوضاع، بصرف النظر عن حقيقة الأسباب التى أدت إلى ارتكابه تلك الأخطاء. ومن هذا المنطلق أود التأكيد على أن توافق الجميع حول صيغة محددة للتبكير بنقل السلطة إلى مؤسسات مدنية منتخبة هو المفتاح الرئيس لحل ملائم للمأزق الراهن. لكن وفق أى صيغة؟ وما هى الجهة المؤهلة لصنع هذا التوافق؟
الواقع أنه يمكن من خلال الجدل الدائر حول هذه القضية رصد ثلاثة أنماط تعكس خطوطا مختلفة للتفكير، ويثير كل منها إشكاليات سياسية أو دستورية من نوع خاص. النمط الأول: يطالب بنقل فورى للسلطة، سواء إلى رئيس مجلس الشعب القادم أو إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا أو بإجراء انتخابات رئاسية فورية. النمط الثانى: يرى ضرورة الالتزام بنص الإعلان الدستورى، مع الأخذ فى الاعتبار الموعد الذى حدده رئيس المجلس الأعلى لتسليم السلطة فى ٣٠ يونيو القادم. النمط الثالث: يقترح البحث عن صيغة جديدة ملائمة تؤدى إما إلى التبكير بنقل السلطة أو إعادة ترتيب الأولويات المنصوص عليها فى الإعلان الدستورى، حتى لو اقتضى الأمر إدخال تعديلات عليه.
وقبل أن نناقش ما تثيره الاقتراحات المنبثقة عن هذه الأنماط الثلاثة، علينا أن ندرك أن الصيغة المثلى للخروج من الأزمة الراهنة يتعين أن توازن بين ضرورات سياسية، تفرض التعجيل بنقل السلطة إلى مؤسسات مدنية منتخبة، وبين ضرورات عملية وأخلاقية، تفرض التعامل مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالتوقير والاحترام اللازمين فى إطار الإحساس بمسؤولية مشتركة عند البحث عن حلول ترجح كفة المصالح العليا للوطن، ولأن النقل الفورى للسلطة، سواء إلى رئيس مجلس الشعب القادم أو رئيس المحكمة الدستورية العليا أو بإجراء انتخابات رئاسية فورية لا يراعى مثل هذا التوازن، فضلا عن أنه يثير إشكاليات دستورية وسياسية عديدة، أعتقد أن هذا النمط من التفكير لا يصلح كنقطة ارتكاز فى إطار البحث عن صيغة توافقية. لذا يجب أن تنحصر الصيغة المطلوبة فى المفاضلة بين النمطين الثانى والثالث.
فإذا حاولنا فحص نمط التفكير الذى يطالب بالإبقاء على الجدول الزمنى المنصوص عليه فى الإعلان الدستورى فسوف نجد أنه ينطوى على إشكاليات عدة، أهمها:
 ١- أنه يتطلب الانتظار حتى نهاية انتخابات مجلس الشورى فى النصف الثانى من شهر مارس القادم قبل الشروع فى إجراءات الترشح لانتخابات الرئاسة.
٢- لن تكون الفترة المتبقية حتى نهاية ٣٠ يونيو كافية للانتهاء من إجراءات صياغة الدستور الجديد والاستفتاء عليه.
 ٣- سينتخب الرئيس القادم وفقا لنصوص إعلان دستورى يمنحه سلطات وصلاحيات تماثل السلطات والصلاحيات التى كانت ممنوحة للرئيس المخلوع.
٤- سيصبح رئيس الجمهورية القادم فى وضع يمكنه من التأثير على صياغة الدستور الجديد.
 ٥- قد يؤدى طول الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية إلى احتمال التعرض لأزمات وانتكاسات ربما تكون أخطر من الأزمات السابقة، بسبب عدم وضوح واحتمال تعقد العلاقة بين مجلس شعب منتخب وبقية المؤسسات غير المنتخبة. ٦- الصيغة المقترحة لا تحسم كل المشكلات العالقة وإنما تؤجلها فقط، لأن المجلس العسكرى سيضطر إلى نقل السلطة قبل وجود دستور دائم يضمن الاستقرار وقابل للدوام.
فى سياق كهذا يتعين على أى صيغة توافقية أن تسلم ابتداء بضرورة الانتهاء من الدستور الجديد والاستفتاء عليه قبل انتخاب رئيس الجمهورية، وهو ما يثير بدوره إشكاليات عديدة. ولحل هذه الإشكاليات يمكن الاختيار بين بديلين:
البديل الأول: إلغاء انتخابات مجلس الشورى أو تأجيلها، ومنح مجلس الشعب وحده صلاحية تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، والاستفادة من الوقت الإضافى المتوفر للإسراع بكتابة الدستور والاستفتاء عليه قبل إجراء الانتخابات الرئاسية. غير أن هذا البديل ينطوى بدوره على إشكاليات سياسية ودستورية عديدة. فالمادة ٦٠ من الإعلان الدستورى تتيح لكل حزب يحصل على مقعد واحد فى أى من المجلسين حق تقديم مرشح فى الانتخابات الرئاسية دون التقيد بالحصول على تأييد ثلاثين ألفا من المواطنين، وهو الشرط الذى يتعين على المرشحين المستقلين استيفاؤه. لذا قد يؤدى إلغاء أو تأجيل انتخابات مجلس الشورى إلى الطعن فى دستورية هذا القرار، وبالتالى يدخلنا فى دوامة جديدة.
البديل الثانى: الإبقاء على انتخابات مجلس الشورى، مع اختزال الفترة اللازمة لإجرائها، وكذلك اختزال كل من الفترة اللازمة لاختيار لجنة المائة (لتصبح عشرة أيام بدلا من ستة أشهر) والفترة اللازمة للانتهاء من صياغة الدستور الجديد وطرحه للاستفتاء (لتصبح شهرين بدلا من ستة أشهر). ويثير هذا البديل بدوره إشكاليات متعددة. فاختزال فترة انتخابات مجلس الشورى يتوقف على عدد القضاة الذين يمكن توفيرهم للإشراف عليها فى ظل قيد دستورى يشترط وجود قاض على كل صندوق. واختزال المدد اللازمة لتشكيل لجنة صياغة الدستور والانتهاء من كتابته قد لا يشكل حلولا عملية وربما يثير من التعقيدات أكثر مما قد ينطوى على حلول. وفى جميع الأحوال فجميعها حلول تتوقف فى نهاية المطاف على حجم التوافق القائم بين القوى السياسية المختلفة ومدى توافر حسن النية بينها.
ويبدو من هذا الاستطراد أن حل بعض الإشكاليات قد يتطلب إدخال تعديلات دستورية، وهو أمر يمكن أن يكون ميسورا فى حال توافق القوى السياسية، أما إذا لم تتوافق القوى السياسية فقد توجد وسائل قانونية للتغلب على هذه العقبة لكنها قد لا تكون ملائمة من الناحية السياسية. غير أن العقبة الكبرى التى لابد، فى تقديرى، من توافق جميع القوى السياسية حولها تكمن فى ضرورة الاتفاق على المعايير والضوابط التى يتعين مراعاتها عند تشكيل الجمعية التأسيسية التى ستتولى كتابة الدستور. فالمادة ٦٠ من الإعلان الدستورى تنص على ما يلى:
«يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسى شعب وشورى فى اجتماع مشترك، بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خلال ستة أشهر من انتخابهم، لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو، تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد فى موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها، ويُعرض المشروع، خلال خمسة عشر يوماً من إعداده، على الشعب لاستفتائه فى شأنه، ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه فى الاستفتاء».
ويتضح من هذا النص أن الإعلان الدستورى لم يقيد الأعضاء المنتخبين فى مجلسى الشعب والشورى بأى ضوابط أو معايير يتعين مراعاتها عند اختيارهم لأعضاء الجمعية التأسيسية، ولم يشر حتى إلى إمكانية إصدار قانون يحدد هذه الضوابط أو المعايير. لذا يحق للأعضاء المنتخبين من مجلسى الشعب والشورى، نظريا على الأقل، أن يختاروا أعضاء الجمعية التأسيسية من داخل أو خارج البرلمان، وأن يدخلوا فيها من يشاؤون من تيارات وفئات المجتمع ويحظروا دخولها على من يشاؤون. بل إن المادة المشار إليها لم تحدد حتى نوع الأغلبية اللازمة لاختيار هؤلاء الأعضاء وبالتالى سيتم الاحتكام فيها إلى لائحة داخلية سيضعها أعضاء البرلمان بأنفسهم.
قد يبدو للبعض أن مسألة تحديد الضوابط والمعايير تشكل معضلة غير قابلة للحل، خصوصا أن «وثيقة السلمى» أثارت لغطا كثيرا حول هذا الموضوع. غير أننى أعتقد أنه يمكن التوافق بسهولة حول هذه المسألة الشائكة إذا:
 ١- حسنت نوايا جميع الأطراف.
 ٢- تم تحديد المقصود بالضبط من الضوابط والمعايير.
 ٣- وجد الإطار المؤسسى المناسب للبحث عن توافق حول هذه المسألة. لذا أعتقد أنه سوف يكون من المفيد تماما التأكيد على أن الضوابط المقصودة هى ضوابط عامة لا تصادر على حق البرلمان فى الاختيار، وتضمن فى الوقت نفسه عدم هيمنة تيار فكرى بعينه أو حزب سياسى بعينه أو فئة اجتماعية بعينها على تشكيل الجمعية التأسيسية، دونما حاجة إلى تحديد أى حصص. ولا أظن أن أحدا يمكن أن يعترض على ضمانات عامة تكفل تمثيل جميع القوى والتيارات بشكل عادل ومتكافئ لإقامة نظام سياسى يتسع لمشاركة الجميع. المهم أن يوجد إطار مؤسسى مناسب لمناقشة هذه المسألة الشائكة وأعتقد أن المجلس الاستشارى يمكن أن يشكل هذا الإطار. لذا أناشد رئيس حزب الحرية والعدالة أن يلتحق به، كما أناشد المجلس أن يضم بعض الشخصيات التى يمكن أن تضفى على المجلس قدرا أكبر من المصداقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ