الاثنين، 16 يناير 2012

الطريق إلى ٢٥ يناير: د. عمار على حسن يكتب شهادته البداية: ٢٠٠ من رموز الوطن يوقعون عام ٢٠٠٤ بيانا يطالب مبارك بالرحيل بدعوة المناضل الكبير أحمد نبيل الهلالى ١٦/ ١/ ٢٠١٢




عشت ما جرى فى أحلام اليقظة كاملا قبل سنين، ورأيت ما انتظرته يمشى أمام عينى ويملأ نفسى بالدهشة والفرحة. ففى عام ٢٠٠٦ شرعت فى كتابة عمل بحثى موسع عن «المقاومة والاحتجاج فى العالم العربى» ملت فيه إلى الخيار السلمى، الذى يعلو على الصمت والتحايل، ولا ينجرف إلى العنف المسلح الذى قد يضع كل شىء وكل أحد فى مهب الريح. وكان لى حظ أن أشارك الغاضبين هتافهم الهادر فى الشوارع الملتهبة «سلمية.. سلمية».
كثير من الأفكار التى خطتها أناملى على الورق طيلة خمسة أعوام عن الكلمة التى تنتصر على القنبلة، والدم الذى يهزم السيف، والقادمين من الحارات الخلفية حين يرسمون لوحات المجد فى الميادين الفسيحة، رأيتها متجسدة أمامى، بل ما وقع وما جرى تعدى بكثير ما تم خطه وتحديده وتعيينه، لأن ملايين المبدعين هجموا فجأة على غرفة التاريخ التى أوصدها نظام شائخ متداع فغمرها نور ساطع اختزنته الذاكرة المصرية عبر آلاف السنين ودفعته دفقة واحدة فى وجه العمى والظلام والزيف والادعاء.
■ ■ ■
كانت البداية بعيدة بعض الشىء، فالثورة لم تولد خلسة ولا من دون مقدمات، بل هى النتيجة الكبرى لتمهيد طويل، والحصاد الناجز لزرع نبت فى تمهل ونما حتى استوى على سوقه. أول التفكير قديم منذ أن أجهضت حركة يوليو وتفرقت بها السبل وتراخت عزيمتها تماما فى الانتصار لمبادئها، بل تناستها فى مفترق الطرقات التى لا تنتهى. وبداية التدبير هى تلك اللحظة التاريخية التى أقدم فيها مائتان من رموز هذا الوطن بالتوقيع على بيان يطالب حسنى مبارك بالرحيل. كان هذا مطلع عام ٢٠٠٤، وكان الداعى لهذا البيان هو المحامى والمناضل الكبير أحمد نبيل الهلالى- رحمة الله عليه- وكان لى شرف أن أكون من بين هؤلاء. وتم هذا تحت لافتة حركة اجتماعية لمع نجمها ثم انطفأ سريعا اسمها «الجبهة المصرية من أجل التغيير»، التى سلمت الراية فى رضا وامتنان لطلقة كاشفة بددت ظلاما كثيفا اسمها «الحركة المصرية من أجل التغيير»، التى عرفت إعلاميا باسم «كفاية».
مشينا فى المظاهرات التى بدأتها كفاية، ونحن نصرخ « لا للتمديد.. لا للتوريث» مجموعة تتدثر بالأمل، وتؤمن بأن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وأن جبل الثلج الراكد على صدورنا يحتاج إلى أظافر تخمشه حتى ينزف أحجاره الباردة على أكفنا. وكنا نعرف أن احتقان المصريين بات يشبه كومة قش يابس فى صيف قائظ تحتاج إلى إشعال عود ثقاب واحد حتى تندلع فيها نيران، فخبأنا فى صدورنا وحجورنا هذا العود النحيل لحين ينقدح القش ويشتد القيظ. مرضت كفاية لكنها لم تمت، بل سلمت الراية إلى «الجمعية الوطنية للتغيير» أو تفهمت ظهورها الآسر، وحضورها القوى، وعملت إلى جانبها، لأن الساحة كانت تتسع للجميع، وتحتاج إلى الكل، بلا تمييز ولا إقصاء، ولا تجاهل ولا نكران. وفى الجمعية التى يشرفنى أن أكون عضوا فى أمانتها العامة، أكملنا الطريق، بإمكانات قليلة وجهد وافر وأمل لا حدود له. كنت فى «لجنة المحافظات» التى عُنيت بالتواصل المباشر مع الناس، وجها لوجه، وفى كل مكان، وبقدر المستطاع.
فقد كان أمن الدولة لنا بالمرصاد، مسلحا بقانون الطوارئ على الورق، وقانون الغاب فى الواقع. لم يسمح بعقد لقاءات جماهيرية فى الشوارع والميادين، وضاقت بنا السبل فطرقنا أبواب بعض أحزاب المعارضة، فأوصدت أمامنا إلا «حزب الجبهة الديمقراطية» الذى سمح لنا بأن نلتقى الناس فى مقاره البسيطة. وبذا ظل كل شىء يدور على نطاق ضيق، ويُنتزع انتزاعا.
المرة الوحيدة التى التقينا الناس فى العراء، ونجوم الليل الغارق فى الدفء تحط على رؤوسنا، كانت فى السويس. فأهلها البواسل انتزعوا موافقة أجهزة الأمن على عقد مؤتمر شعبى فى أحد الأندية الرياضية، وكان هذا فى شهر أغسطس ٢٠١٠، وجاءونا بالآلاف، فصرخت فيهم حناجرنا: اقتربت اللحظة التاريخية، أو هكذا نتمنى. ولهذا لم أندهش حين وجدت السويس فى طليعة الثورة، بها سقط أول شهيد وفيها سبقت الخطى كل الأفكار والأحلام، وكانت القاطرة التى تجر بقية عربات القطار. وكنت كلما وجدت الأمل ينحسر فى عيون من حولى بميدان التحرير أو انسدت فى وجوه بعضهم كثير من مسارب الحرية، أو دب اليأس فى نفوسهم المهيضة، ونهش التعب فى أجسادهم الواقفة كالنخل ساعات لحراسة الثورة، أتصل بأصدقائى لأسألهم: كيف حال السويس؟
فى مارس ٢٠١٠ كنا فى المنصورة وأمامنا الدكتور محمد البرادعى. لأول مرة ننظم مظاهرة بهذا الحجم خارج القاهرة، تحت لافتة «الجمعية الوطنية للتغيير» بعد أن نجحت المحلة فى فعل ما هو أهم وأشد وأعتى يوم ٦ أبريل ٢٠٠٨ . آلاف فى الشوارع ولافتة تحمل صورة الطاغية تنزف تحت أقدام الغاضبين، و«ثورة صغيرة» أو «مشروع ثورة» يلوح فى الأفق، ونافذة ضيقة تنفتح بقوة على التاريخ الآتى، وحركة شبابية تولد من بين هالات الدخان ولفحات اللهيب وقبضات الأنياب الراسية على الأنياب. كانت النيران تستعر تحت الرماد، وكان نظام الحكم لا يلتفت إلى الشرر المنبعث هنا وهناك. ألفان وخمسمائة احتجاج اجتماعى بدرجات متفاوتة، وأصوات زاعقة على الشاشات الزرقاء، وحروف غاضبة تمتشق كالشوك على صفحات الورق. لكن السلطة كانت تعتقد أن حذاءها الثقيل قادر على إخماد النار وكسر الشوك وإسكات الأصوات وقصف الأقلام.
وجاءت القشة التى قصمت ظهر البعير، انتخابات مزيفة بشكل ومضمون فاضحين، وكسر القاعدة التى عاش عليها نظام مبارك ثلاثين عاما، بتحطيم «الديكور» وحرمان المنتظرين على الأبواب من الفتات المتاح. وحين كانت السلطة تزهو باحتكار السياسة بعد أن احتكرت الاقتصاد والثقافة والأمن وكادت تستولى على الماء والهواء، كان هناك من يقولون «قضى الأمر الذى فيه تستفتيان». فعقب انتخابات مجلس الشعب ٢٠١٠ مباشرة كنت ضيفا على برنامج «العاشرة مساء» الشهير على قناة «دريم» ويومها قلت: «أشعر بتفاؤل شديد حيال ما سيأتى لأن نظام الحكم بدا أقل ذكاء مما تصورنا»، ثم كتبت مقالا فى صحيفة «المصرى اليوم» بعنوان «الحزب الوطنى خسر أيضا» برهنت فيه على أن هذا الحزب، الذى لم يكن سوى شلة منتفعين تتحلق حول الرئيس ونجله، هو أكبر الخاسرين، إن قَيَّمنا الأمور بعيدا عن ظاهرها وقشورها الخادعة.
وحدا كثيرين الأمل، أو توقعوا على سبيل التمنى، أن يدخل الرئيس التاريخ من باب جديد حقيقى، ولأول مرة فى عهده الذى امتد ثلاثة عقود، ويلغى الانتخابات الغارقة حتى ناصيتها فى التزوير، لكنه لم يخيب الظنون فى بلادته واستبداده وفساده واستخفافه بشعبه، وجاء ليقر التزييف، ويلقى تصفيقا حارا وحادا كالعادة، وكأن شيئا لم يجر.
قبلها بأيام، وردا على محاولة قتل إرادة الأمة، أقيم «البرلمان الشعبى»، الذى ضم مائة شخصية من نواب سابقين، أسقطهم التزوير، وشخصيات عامة ومثقفين، وكان لى شرف أن أكون منهم. وحين طرح هذا الأمر أمام الرئيس المخلوع تهكم بطريقة جارحة قائلا: «خليهم يتسلوا». وفى اليوم الرابع للثورة قلت له على شاشة إحدى الفضائيات: «ها نحن نتسلى أيها الطاغية». فى الحقيقة كان المصريون يتسلون به وعليه.
كل شىء كان يجرى فى الشارع بسرعة الحصان، وتقابله السلطة بزحف السلحفاة، متوهمة أن الشعب قد مات أو دخل فى إغفاءة طويلة تصل إلى حد الغيبوبة، أو أنه صار قطيعا من الأغنام. ولذا لم يتم التعامل بجدية مع هذه الدعوة التى توالدت بغزارة شديدة على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» إلى الخروج على النظام يوم ٢٥ يناير، وقد بلغ التهكم بكتاب السلطة مداه فقالوا: «هل هناك ثورة بميعاد؟». وكتب أحدهم بصفاقة طافحة: «من فضلك قل لى الثورة الساعة كام؟» لكنها كانت هكذا، محددة الزمان والمكان.
■ ■ ■
حين نجحت ثورة تونس شَكَّلنا وفدا من «الجمعية الوطنية للتغيير» ليذهب إلى مبنى السفارة التونسية فى حى الزمالك بالقاهرة لتقديم التهنئة. كان الطريق إليها مفروشا بالهراوات والدروع والمصفحات والغل الدفين، ولا دخول إلى شارع السفارة غير الوسيع إلا بجهد مضن. كنت متأخرا خطوات عن بقية أعضاء الوفد، فمنعونى من الدخول، لكنى أصررت ولم يجدوا بداً من فتح مسرب صغير لمرورى. هناك أمام السفارة وجدت نحو أربعين شابا محاصرين تحت شجرة تتهدل أفرعها فى أسى، وجذعها الخشن لا يسمح لأى منهم أن يسند ظهره إليها، بينما دائرة قوات الأمن المرتدية لزى مدنى تضيق الخناق عليهم لعصرهم ودفعهم إلى الانزلاق نحو الفراغ والهزيمة. لكنها لم تخل من فائدة، فزيهم المدنى عزز عدد المحتجين فى أعين الكاميرات التى كانت رؤوسها تطل على الوجوه، وتفضح كل شىء.
ومع هذا كان عدد قوات الأمن المرتدية الزى الرسمى كثيرا كالعادة، مائة جندى على الأقل لكل متظاهر، ورفعت هامتى فامتلأت عينى بالأجساد النحيلة المغلفة بأردية سوداء وقلت لواحد من لواءات الشرطة الواقفين قبالة السفارة لتحريك كل شىء: «كل هؤلاء الجنود من أجل حفنة من المتظاهرين.. لو أعطيتم كل واحد منهم فى بداية فترة تجنيده نواة بلح غرسها ورواها ورعاها وسلمها لكم بعد ثلاث سنوات، فمنحتموه شهادة أداء الخدمة، لأصبح لدينا الآن مائة مليون نخلة، وهذا أفيد بكثير من الدفع بهؤلاء الفقراء لقمعنا»، فضحك حتى بانت أسنانه الصفراء وقال: «هذا كلام يمكن أن تقوله لوزير الزراعة وليس أنا».
قبل ثلاثة أيام من لحظة الانطلاق استعرض بعض شباب «الجمعية الوطنية للتغيير» أمامنا «خطة العمل» التى يتداولها كل الشباب، لاسيما أولئك المنضوون تحت كيانات سياسية، حركية أو حزبية، حول شكل ومسار المظاهرات التى ستخرج يوم ٢٥ يناير. وكانت فكرتها تقوم أساساً على كسر الدائرة الحديدية التى فُرضت على المتظاهرين على مدار سبع سنوات، وجعلتهم يحفظون وجوههم وكأنهم رواد مقهى يتواعدون كل ليلة على اللقاء.
كنا ننظم مظاهرات على سلم نقابة الصحفيين، الذى تحول إلى «هايد بارك» أو نقابة المحامين أو أمام دار القضاء العالى أو أمام ضريح سعد زغلول، وبات هذا حدثاً مكرورا إلى حد الملل. نتجمع وسط لوحات صغيرة مكتوب عليها شعارات زاعقة ضد السلطة الفاسدة المستبدة، وليس معنا سوى حناجرنا المبحوحة وأكفنا المرفوعة إلى أعلى تدق الهواء بعنف وغيظ، وعيوننا التى تصطاد الأمل الذى يبرق أمامنا مبتسما. وكان كل هذا يتم تحت سمع وبصر أجهزة الأمن، فقد تعودنا على ضباط من أمن الدولة يقفون أمامنا وفى أيديهم أقلام وأوراق يسجلون فيها كل ما نهتف به، وبعضهم يلتقط صوراً لنا، وبعد فترة لم يعودوا فى أى حاجة إلى كاميرات، لأن وجوهنا انحفرت فى رؤوسهم. وعلى بعد خطوات منا كان يجلس ضباط الأمن المركزى برتب متصاعدة يروّضون الدعة والفراغ والراحة والاطمئنان إلى أن كل ما يجرى تحت السيطرة التامة.
كنا نبدو كائنات قادمة من كوكب آخر. يرانا المارة والمحشورون فى الحافلات الصدئة والمتدثرون بأسقف سياراتهم التى تسير ببطء ونحن نصرخ فترتسم على وجوه بعضهم علامات التعجب إن لم تكن علامات الاستنكار، وفى عيون البعض الآخر شفقة علينا وتأثر بحالنا الغريب أو خوف مما سيؤول إليه مصيرنا. فى كثير من الأحيان كان يأتينا هجوم بغتة من أى جهة، فكل الجهات ملك يمين الحاكم الأوحد. بعضنا كان يتمكن من التسلل من بين الأذرع الخشنة بعد أن ينفتح مسرب للخروج. البعض كانوا يخفقون فتتمكن أجهزة الأمن من اعتقالهم وهنا يكون أمامهم مساران إما غياهب الحبس الموحش، أو الإلقاء فى قلب الصحراء، حيث تخطف الأجساد المنهكة من قلب الشوارع التى تغص بالآدميين، ثم تقذف على صفحات الرمل على جانبى أى طريق سريع بين القاهرة ومدينة أخرى من المدن التى تترقب فى صمت وصبر عجيب ومريب.
فى مطلع ٢٠١٠ خرج المصريون عن بكرة أبيهم، قبل الثورة بعام كامل، لا للاحتجاج على الظلم وطلبا للعدل، وليس حتى لضخ دماء جديدة فى أوصال المظاهرات النخبوية التى كانت تتآكل بفعل عوامل تعرية سياسية واجتماعية عديدة، لكن لأن منتخب مصر لكرة القدم هزم نظيره الجزائرى بأربعة أهداف مقابل لا شىء فى بطولة الأمم الأفريقية. فى تلك الليلة أغلقت الشوارع بالأجساد المتمايلة رقصا وطربا وصدحا، فلم أتمكن من القدوم إلى بيتى وسط القاهرة إلا عبر المترو. خرجت فى محطة السادات «التحرير»، وانعطفت يمينا فى شارع قصر العينى وأنا أسير بصعوبة وسط الحشود التى احتلت الشارع وأطلقت الهتافات والألعاب النارية. ليلتها نظرت إلى هؤلاء الشباب فى تعجب وقلت لصديقى: «لو جاء معنا فى مظاهراتنا اليتيمة ربع هؤلاء سنسقط مبارك تحت أقدامنا». وبعد عام، وفى أول يوم للثورة كان ألتراس الأهلى والزمالك فى الصفوف الأمامية، يشبكون أيديهم متلاحمين، ويطلقون حمحمة رهيبة لتخويف جنود الأمن المركزى.
قبل هذا اليوم الموعود بساعات كان التصور الذى تداوله الشباب فى العالمين «الافتراضى» و«الواقعى» مختلفا إلى حد كامل عما سلكته الحركات الاجتماعية من قبل، لأنه بنى من خلال إجابة عن سؤال مهم: كيف نفتح أذرع القلة المحاصرة على كل شوارع الوطن؟ كيف يصل صراخهم إلى كل الآذان؟ وكيف نحول هذا الغضب المكتوم إلى طاقة جبارة للعمل والكفاح؟ وكيف يأتى الناس لإنقاذ أولئك الواقفين على قلوبهم منذ سنين دون مدد؟ وكيف تمد نقطة النور شعاعها الأخاذ إلى كل الشوارع الخلفية والحارات والعطوف التى يعشش فيها الظلام؟ أو كيف تفىء بقعة الظل الوارفة على كل هذا الهجير المقدوح فى نار تلظى؟
وقال من لهم خبرة سابقة فى العمل السياسى والتنظيمى وكذلك المطلعون على تجارب الأمم الأخرى فى الاحتجاج والخروج على الظلم والقهر رأيهم فى هذا التصور، ثم رفعت الألسنة والأقلام وبدأ الشعب المصرى العظيم كلمته، إذ لم تمض ساعات إلا وانفتح القليل على الكثير، والدم على الجراح المتقيحة. وبدأ كل شىء كما رآه العالم على الهواء مباشرة.
■ ■ ■
فى صبيحة يوم ٢٥ يناير كنت أزور شخصية قانونية وفكرية مرموقة فى بيته بالجيزة، وكان الرجل معنا عضواً للأمانة العامة للجمعية الوطنية للتغيير وفى البرلمان الشعبى. قبيل الظهيرة استأذنته فى الانصراف، لكنه استمهلنى لنتناول الغداء سويا، فاعتذرت له وقلت: لابد من أن أنصرف لأشارك فى المظاهرات. فنظر إلىَّ مليَّا وقال: إلى أين ستذهب؟ قلت له: اتفقنا فى البرلمان الشعبى على أن تكون وقفتنا أمام دار القضاء العالى لكننى سأقف مع الناس فى أى مكان؟
فابتسم وقال: لنبق ونتناول غداءنا ولن يضر المتظاهرين أن ينقصوا اثنين. فتفهمت مقتضيات حاله وظروف شيخوخته، ثم قلت له: أشعر بأن المسألة هذه المرة مختلفة إلى حد كبير. فى طريقى إلى قلب القاهرة كانت الشوارع التى تؤدى إلى ميدان التحرير موصدة، كلما قطعنا أحدها متقدمين صوب الشرق، صدتنا الحواجز ورجال الشرطة المرسومة على وجوههم علامات لم نشهدها من قبل، فعرفت وقتها أنه يوم غير عادى. نعم توقعنا أن يكون هناك شىء كبير حين ناقشنا الخطة فى الجمعية الوطنية، كنا نسميه «مظاهرة مؤثرة» تحرج النظام وتثبت له أن الانتخابات المزورة لا يمكن هضمها وتمريرها، لكن أحدا لم يتوقع أن يكون كبيرا إلى هذه الدرجة، رغم أن بعضنا كان حريصا على أن يمنح الناس الأمل حين يلتقيهم فى الندوات والمؤتمرات واللقاءات الجماهيرية بمقار الأحزاب ويقول لهم: «آتية لا ريب فيها، أسرع مما يتوهمون، وأكبر مما يتصورون».
فى يوم ٢٥ يناير أيضا نُشر مقالى الأسبوعى بــ«المصرى اليوم» عنوانه «مصر وثورة تونس» كانت آخر عبارة تتوجه إلى السلطة قائلة: «ويرونه بعيدا ونراه قريبا» وجاء فيه أيضا «الطريق إلى الرئيس يبدأ بالرغيف» وذلك بعد أن كنت قد نشرت مقالا عام ٢٠٠٨ فى ذكرى ثورة يوليو تحت عنوان «ثورة ماتت.. أخرى قد تولد» كانت آخر عبارة فيه تقول: «لكن هؤلاء جميعا، الصامتين منهم والصائتين، فى الريف والحضر، فى الصحراء والوادى، يشنفون آذانهم ويمدون أنوفهم ويضغطون على ضروسهم كلما تناهى إليهم أى صوت، فى الإذاعة أو التليفزيون، أو لمحت عيونهم أى كلمة فى جريدة أو كتاب تتحدث عن الظروف التى سبقت ثورة يوليو، والعوامل التى أدت إليها، فيضعون الحالة أمام الحالة والموقف قبالة الموقف، ويقولون فى ثقة متناهية: إنها المقدمات التى تسبق النتائج».
لكن الجميع كان يتوقع أن تنطلق الثورة من عزب الصفيح التى تهزها الريح وتفوح منها روائح القهر والفقر والمرض، حيث تخرج ملايين الأفواه الجائعة لتبتلع كل شىء وكل أحد، ولا صاد ولا راد لها إلا عفو الله ورحمته بعباده. وكتبت مقالا فى صحيفة الأهرام عام ٢٠٠٨ كان عنوانه «ثورات مصر عبر العصور» ثم مقالا آخر بعنوان «أقدم ثورة فى التاريخ» بدأت فى الأول بالثورة التى وقعت فى مصر أيام الملك
 


جاءت هذه الشبكة الإلكترونية لتمكن مئات الآلاف من أن يراكموا المعلومة على مثيلتها، والفكرة على نظيرتها.
فها هو أحدهم يقترح أن يتم الاعتراض على أسلوب وزارة الداخلية بعد مقتل خالد سعيد وسيد بلال، علاوة على حالات التعذيب والقسر والقهر والإذلال التى تطول المصريين من سوء معاملة أغلب ضباط الشرطة، فيحدد الثانى يوم عيد الشرطة موعدا للاحتجاج. ثم حدث تداول حول المكان والأسلوب والشعارات والهتافات وطريقة التعامل مع أجهزة الأمن.. كان كل واحد يكتب رأيه، فيأتى الآخر ويضيف إليه أو ينقحه أو يدحضه ويضع أفضل منه، كل هذا يتم من خلف أجهزة الحاسوب التى يعرف بعضها بعضا جيدا، بينما يجهل مستخدموها مع من يتناقشون ويتداولون ويتبادلون الرأى والمشورة أو المكيدة.
وهكذا الحرف على الحرف حتى ارتفع الأمر من مجرد «مظاهرة» إلى «ثورة» لاسيما بعد هروب «بن على»، وجاءت الضربة للنظام من حيث لا يحتسب. أبناء الطبقة الوسطى بشرائحها الثلاث مسلحين بوسائط الاتصال الحديثة التى تخترق كل الحدود والسدود والقيود، تمكنوا بأسرع مما يتصور أحد أن يجمعوا الناس من الشوارع الخلفية المنسية، ويدفعوهم إلى مركز الحدث، قلب العاصمة مترامية الأطراف والتاريخ والمعانى «ميدان التحرير».
لكننى وأنا أنتقل من غرب النيل إلى شرقه كنت ذاهبا للمشاركة فى مظاهرة أكثر اتساعا، تأكدت من أنها صارت كذلك حين جاءنى هاتف من أحد الصحفيين يسألنى عن رأيى فيما يقع، وسرد على سمعى أخبار ما يجرى الآن فى أحياء متفرقة من القاهرة والسويس والإسكندرية والمنصورة، فكان أول تعليق لى: حقا إنه يوم مختلف. ووصلت إلى بيتى وسط القاهرة من طريق التفافى، لأخلع بذلتى وأرتدى لبسا كنت أعددته أمس خصوصا للمظاهرة، فلما دخلت كانت زوجتى تجلس مندهشة أمام «قناة الجزيرة»، فلمحت عينى حروف شريط الأخبار، بينما كانت الصور منصرفة إلى حدث كبير وقع فى لبنان. وقلت فى نفسى: لا وقت لتبديل الملابس، وهرعت إلى الخارج، ودخلت شارع قصر العينى من ناحية مؤسسة روز اليوسف، وما إن تقدمت نحو الجموع حتى انهمرت على رأسى زخات قوية من الماء مصحوبة بسحب داكنة من الدخان الخانق، ردتنا إلى الوراء، وراحت مصفحة قاسية تكسح الطريق أمامها فيتساقط المتظاهرون على الجانبين، هاربين من موت محقق.
تفرق بعضنا فى الشوارع الجانبية نحو المنيرة وضريح سعد، وكنت أنا من بين الذين دلفوا إلى حى جاردن سيتى ونحن نهتف «يسقط مبارك» و«عيش.. حرية.. كرامة إنسانية»، وراح السكان ينظرون إلينا من النوافذ وفى عيونهم شفقة واستغراب وتساؤل.
انعطفنا يمينا على الكورنيش قاصدين التحرير، حيث المكان الذى اتفق الجميع على الالتقاء فيه، زاحفين من كل المسارب الموزعة على الجهات الأربع. على باب الميدان كان ضباط الشرطة ينظرون إلينا مبتسمين، وخلفهم يصطف الجنود صامتين، عندها قلت للشباب: «إنهم ينصبون لنا فخا» وكان فخا لهم، إذ انقلب السحر على الساحر.. كانت خطتهم أن يجمعوا أشلاءنا الغاضبة الموزعة والمشتتة فى قارعات الطرق والشوارع البعيدة، حتى لا ينضم الناس إلينا ويضعونا تحت أعينهم فى مكان واحد يسهل حصاره وضربه أو مساومته. لكن حين تجاورت الأجساد والتحمت الأرواح فى ميدان التحرير اكتشفنا أننا أكثر من أى يوم مضى، واكتسبنا بمرور الوقت ثقة متناهية واستدفأنا بحناجرنا التى ألهبها الصراخ: «الشعب يريد إسقاط النظام».
وحين رمى الليل ستائره على الميدان، غامت الرؤية لكن انجلت النفوس بالغاية النبيلة. وقطعت السلطة الاتصالات الهاتفية عن المكان لتعزله، لكنها لم تقطع الرجاء، ولم تمنع التواصل الإنسانى بين المحاصرين والمحيط الأوسع، لأنهم كانوا يحملون أشواق الناس إلى العدل والكفاية والحرية. ولما أوغل الليل فى الرحيل قررنا أن نعتصم، وبدأت فتيات يجمعن تبرعات لتغطية المعيشة المؤقتة، فى حين أخذ الشباب يدورون فى جماعات هاتفة فى جنبات الميدان.
كنت أدور بين المعتصمين وحنجرتى تتساقط تدريجيا من كثرة الإجابة عن تساؤلاتهم التى لا تنتهى. وكنت أبذل جهدا مضنيا لإيصال أى حديث إلى مسامعهم ونحن بلا مكبرات صوت، إلا من واحد يتيم جىء به عند منتصف الليل وتم وضعه على أحد أعمدة الإنارة بالميدان، وأطلق عليه «إذاعة التغيير». ولما وجدت من بينهم شبابا جاءوا من الحارات البعيدة، وبعضهم لا يعرف القراءة والكتابة، قلت لكل المحطات الفضائية التى اتصلت بى فى اليوم التالى: «انتقلت الثورة فى الساعات الأولى من الفيس بوك إلى الناس بوك»، وتحدثت عن «التحول الاستراتيجى» الذى سيحدث إن تمكنا من المكوث والصمود فى الميدان، مستعيدا ما قرأته عن تجارب جيل السبعينيات الذى كان بعض رموزه حاضرين بين المتظاهرين، يبثون فيهم ما خبروه وألفوه فى زمان شبابهم، وانتظروا طويلا حتى يجدوا شبابا يريد أن يفعل ما فعلوا أو يتجاوزهم إلى ما هو أبعد.
كثير من المعتصمين لم يكن لهم من شاغل فى هذه اللحظة إلا أن يجبروا مبارك على أن يقول «فهمتكم»، على غرار زميله التونسى بن على الذى وازاه وساواه فى الطغيان والفساد، وضاقت عليه أرض بلاده بما رحبت، ففر هاربا قبل أحد عشر يوما من ميلاد المشهد المهيب الذى احتضنه ميدان التحرير وعانقته شوارع مدن مصرية، انتفضت من نومها الطويل. وسألنى كثيرون: متى يقول مبارك «فهمتكم»؟ كان الجميع يشعر بالإهانة الشديدة لأن مصر تأخرت فى تحصيل هذا السبق التاريخى، مع أنها كانت ترى وتسمع وتفهم بعض أبنائها الذين خرجوا قبل سبع سنين يقولون لمبارك «ارحل» بعبارات مختلفة.
لكن كل شىء انهار مؤقتا بعد منتصف الليل بأربعين دقيقة فقط، حيث هجم جنود الأمن المركزى بهراوات ودروع بعد تمهيد نيرانى كثيف برصاص الصوت وقنابل الدخان التى حولت الميدان إلى قطعة مظلمة، وتقدمت المدرعات فاحتلت كل شبر فيه. لكن المتظاهرين لم يعودوا جميعا إلى منازلهم، فبعضهم استجمع أنفاسها اللاهثة وكرامته الذبيحة وسار يهتف ضد النظام فى الشوارع المحيطة بالميدان لاسيما أمام مبنى التليفزيون.
ولم يكن هذا فى كل الأحوال بعيدا عن طريقة الاحتجاج المتفق عليها.. المكوث فى الشوارع حتى مطلع الفجر ثم الذوبان فجأة، والعودة مع عصر اليوم التالى، وبذا لن يتمكن الجنود من النوم، فيحل بهم التعب ويتساقطون تباعا. وهذا ما جرى بالفعل يوم ٢٨ يناير، المعروف باسم «جمعة الغضب»، حيث انهارت عزائم الجنود وتراخت وخروا راكعين أمام الجماهير الزاحفة والجموع الهاتفة.
قضيت ثلاثة أيام لم أنم فيها إلا ساعات قلائل، أجىء إلى البيت متأخرا، وألقى جسدى على «كنبة» فى الصالة مرتديا كامل ملابسى، واضعا فى جيبى أوراقى الثبوتية ونقودا وأدوية، فقد كنت أتوقع أن يتم اعتقالى فى أى لحظة. وأردت ألا يزعج زوار الفجر أسرتى. قلت إن جاءوا سأقول لهم: أهلا أنا جاهز، هيا بنا فى سكون وصمت، لا تقلقوا أولادى.
يوم جمعة الغضب فتحت جفنين مرهقين لأصطدم بشاشة هاتف خرساء، لا إشارة أبدا، وكذلك «الإنترنت» غائبة. أى قبح هذا وأى غباء؟ أهناك من يعيش بيننا وهو يظن الآن أن بوسعه أن يحجب شيئا؟ وسخرت من هذه السلطة التى تعيش خارج التاريخ، وها هى تقدم للناس سببا آخر للنزول إلى الشوارع إما للاحتجاج على هذه المهزلة أو لاستطلاع ما يجرى على أرض الواقع بعد أن تعذرت متابعته عبر وسائط الاتصال الجديدة.
نزلت من بيتى، ومررت على مسجد بشارع الشيخ على يوسف فى حى المنيرة، كان بعض الشباب جالسين، وقد أسندوا ظهورهم إلى الجدار، فأشاروا إلى وابتسموا فرددت لهم التحية، ثم مضيت فى طريقى قاصداً مسجد «صلاح الدين» فى أول حى المنيل، وأنا أقول فى نفسى: ستخرج المظاهرة من هنا. أليس هذا هو المسجد الذى رأينا لجماعة الإخوان فيه نفوذاً تاريخياً؟ هكذا ألفناه منذ أن كان يصلى فيه الدكتور عبدالرشيد، ونحن طلبة بجامعة القاهرة، بين عامى ١٩٨٥ و١٩٨٩، وكنا نجىء إليه قاطعين الكوبرى النائم على النيل، ونعود بزاد من المعرفة التى يعانق فيها الدين السياسة، أو تجور فيها السياسة على الدين، فتختلط فى أذهاننا أمور، وتمور أنفسنا بمشاعر متضاربة.
ورغم أن الإخوان أعلنوا عدم مشاركتهم فى مظاهرات ٢٥ يناير، فإننى قلت لنفسى: ربما غيروا موقفهم بعد أن توعدهم النظام، وشاهدوا ميدان التحرير ممتلئاً، وكنت قد رأيت بعض شبابهم الذى لم يمتثل لأمر مكتب الإرشاد بين المتظاهرين.
جلست للصلاة إلى جانب أحد الأعمدة، وكان الخطيب يسهب فى شرح الآية القرآنية «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، ولوى عنق الآية الكريمة التى تقول «أولى الأمر منكم» أى من بينكم ومن اختياركم، وليس «أولى الأمر عليكم» ومن يحكموننا هم علينا وليسوا منا، ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، ولا معصية أفدح من قتل المصريين المنظم وتعذيبهم وقهرهم وإذلالهم وكبتهم وتدميرهم بشكل بشع، ولما تطاول ووصف المظاهرات بأنها «فتنة» صرخت فيه: «حرام عليك».
وانقضت الصلاة وخرجنا من الباب الذى يواجه النيل فرأينا ثلاث عربات أمن مركزى وعشرات الجنود واقفين متحفزين للهجوم، فتلاقت الأعين وانصرف الناس متسربين ناحية شارع عبدالعزيز آل سعود، وشعرت بخيبة أمل شديدة، لكننى سرت نحو شارع المنيل، وتوقفت أمام مقهى «ليالى المنيل»، ونظرت فوجدت أن كل شىء يجرى كالعادة، بعض الحضور يلعب النرد أو الدومينو وهناك من يحتسى الشاى أو القهوة، وهناك من ينفخ فى النرجيلة بصمت مطبق، وهنا طفرت عيناى بالدموع، وتساءلت: هل خذلنا الناس؟ وتنامى إلى سمعى حوار يدور بين زمرة تحلقت حول طاولة وفى أيديهم عصى غليظة، وفهمت من كلامهم أنهم مجموعة من البلطجية جاءوا لضرب المتظاهرين.
تقدمت بخطى سريعة حتى ابتعدت عن المكان، وأخذت أهتف بحنجرتى المبحوحة: «يسقط مبارك»، ولاح لعينىَّ هناك حشد يتقدم من ميدان «الباشا» فجريت نحوه دون أن أقطع الهتاف، فلما اقتربت وجدت سيلا من البشر قادما بخطى واثقة فانسكبت على وجهى دموع، وانطلق فى قلبى أمل وفى نفسى شعور طاغٍ بالفخر، وقلت: لم يخذلونا، وأشار إلى رجل طاعن فى السن كان يتوسط المتظاهرين، وقال: جئت يا دكتور عمار. كانت حنجرتى قد خرست بعد أن كادت حبالى الصوتية تتمزق، فوقفت على الرصيف الذى يتوسط نهر الشارع أشير بكلتا يدىَّ للمتظاهرين أن يرفعوا أصواتهم بالهتاف، وقتها سمعت شابا يقول لى والابتسامة على وجهه: «أيوه يا مايسترو».
 وارتفع الهتاف: «يا أهالينا انضموا لينا.. قبل بلدنا ما تغرق بينا» «يا أهالينا لموا علينا إحنا إخواتكو وإحنا ولادكو.. وإحنا بنعمل كده عشانكو» «واحد اتنين.. الشعب المصرى فين»، فجاء الناس من الشوارع الجانبية وأياديهم تدق الريح، وحناجرهم تصرخ: «مش هنخاف من أبوك يا جمال.. صوتنا العالى يهد جبال».
وتحرك الطوفان، وكان كل شارع فى مصر يحتضن طوفانه ويحتفى به.
عند أول الشارع تحرك الجنود من أمام مسجد «صلاح الدين» وسدوا الطريق، بينما وقف «البلطجية» يرمقون الحشد الهائل ويشعرون بخيبة أمل وضعف واستكانة، فبدأ بعض المتظاهرين يقفزون على سور كلية «طب الأسنان» ليدخلوا إلى التحرير من طريق آخر. عندها تقدمت إلى ضابط، وكان برتبة نقيب، واقتربت من أذنه وقلت له بصوتى المبحوح الخفيض: «عددنا كبير كما ترى، ولن تجدى محاولة صد كل هؤلاء وقد يحدث عنف، ولا مصلحة لك فيما يجرى. نحن نحتج ضد السلطة الفاسدة المستبدة، وأنت دورك الحقيقى حماية الشعب». فلم يرد على، وتناول «اللاسلكى» وتحدث مع رتبة أكبر منه، وفهمت من حوارهما أنه يشرح له أن عدد المتظاهرين ضخم، ولا يستطيع صده بما معه من جنود قليلين، فأمره بأن يفتح لنا الطريق إلى «فخ جديد». عندها شكرته، وفى غمرة الانتشاء بفتح الطريق حاولت أن أحييه على طريقتى، لكنه كان يهرب منى خوفا من يلتقط أحدنا صورة له وهو فى هذا الوضع فيلقى عقابا من رؤسائه، الذين أسلموا كل طاقاتهم للنظام الحاكم.
فى هذه اللحظة استدعيت مقدم الأمن المركزى الذى نادانى ليلة «جمعة الغضب» وأنا أعبر ميدان «عبدالمنعم رياض» متقدماً نحو شارع محمود بسيونى. كان يجلس مع زميل له برتبة رائد إلى جوار الكشك الذى يقف متواضعا على أول الشارع فلما رآنى وجدته ينادينى: «دكتور عمار». توقفت ونظرت إليه ثم خطوت نحوه فقام وسار تجاهى، والتقينا فى نهر الشارع فابتسم ومد يده وصافحنى وهو يدوس على أصابعى ويقول: «شدوا حيلكم»، فضغطت على يده وقلت له: «موعدنا غدا».
فى شارع قصر العينى كانت المعركة الرهيبة.. زحفنا صوب الشمال، وأهالى المنيرة وجاردن سيتى ينضمون إلى جمعنا الهادر، وحين وصلنا على أبواب مؤسسة روز اليوسف توقف شاب فى طليعة الحشد، ونظر إلى أعلى المبنى وصرخ: «هنا جورنال لجنة السياسات.. هنا المنافقون وأعداء الشعب»، وهمَّ ليدخل وتتبعه مجموعة من الغاضبين، فجريت حتى سبقتهم وقلت لهم بصوت واهن: «هذه المؤسسة كانت معقل المناضلين ضد المفسدين والظلمة، وكانت قبلة للوعى والتنوير، ولا يضرها أن أحداً اختطفها سنوات قليلة، وهى لنا، لأن المؤسسات الصحفية القومية ملك الشعب، وحين نسقط سيدهم سيتساقطون جميعاً كالذباب». عندها عادوا إلى الخلف واستكملنا المسير، حتى وصلنا إلى النقطة الحصينة على أبواب مجالس الوزراء والشعب والشورى.
وكان لا يمكن السماح لنا بالتقدم إلا بدم. صفوف من المدججين بالهراوات والقنابل والدروع، عربات ضخمة لقذفنا بالماء الدافق، ومصفحات تتقدم لكسحنا من جديد. بنادق وحديد وغضب عارم يكسو وجوه الضباط الواقفين وعيونهم مصوبة إلينا بشرر وشر. دقائق وبدأت المذبحة. دخان وماء وضرب مبرح، فتقهقرنا إلى الخلف، وكدت أموت خنقا، وكانت المرة الثانية التى أقترب فيها من الاحتضار بعد واقعة تفريغ ميدان التحرير من أجسادنا يوم الانطلاق الكبير.
جريت إلى منزلى القريب، وعدت بعد دقائق ومعى كل البصل والخل الذى وجدته فى المطبخ. وقفت فى منتصف الحشد أقطع بأسنانى وأوزع على الشباب، وأصب على أيديهم بقايا الخل، بينما راحت نسوة من النوافذ المرشوقة فى البنايات التى تطل على الشارع يلقين زجاجات المياه المعدنية للشرب، والكوكاكولا لمواجهة الغاز، وفى نهاية اليوم اكتشفت أن أسنانى الأمامية قد انكسرت دون أن أدرى.
عاد الضرب والدخان وتقدمت كاسحة بسرعة جنونية لتدهسنا فجرى الشباب الواقفون فى المقدمة، وأدار الجميع ظهورهم وفروا، وكان يسبقنى شاب نحيف تعثر فى حجر كبير ملقى فى منتصف الشارع، وضعناه قبل قليل ظنا منا أن بوسعه أن يعرقل الكاسحة، لكن خفته وليقاته البدنية أهلته لينهض بسرعة خاطفة، أما أنا فوقعت على وجهى واستوى جسدى على الأرض تماما، ولأول مرة فى حياتى أعرف معنى «الفيمتو ثانية» التى تفصل بين الحياة والموت. لحظة لا يمكن القبض عليها إلا فى معامل الدكتور أحمد زويل.
ففى يوم ٢٥ رأيت شابا يندهس تحت الأقدام الفارة من الجحيم، داسوه بأحذية باردة وقلوب مشدودة إلى النجاة بأى طريقة، وكان موتا مروعا. فى أقل جزء يمكن أن يتصوره العقل البشرى من الزمن قررت ألا أموت هكذا، وبالأحرى أراد الله لى أن أعيش، عبأت كل ما أستطيع من طاقة جسدية وروحية ونهضت عدوا، ثم انزلقت مع المنزلقين إلى شارع «صفية زغلول» وأنا أسعل بشدة، وأروض موتا آخر من أثر قنابل الغاز الخانق.
عدت إلى البيت بحثا عن خل أو بصل فلم أجد شيئا. التقطت أنفاسى المبهورة، متغلبا على مرض حساسية الصدر المزمن، ونزلت من جديد. كانت مجموعات من الشباب تواجه صفين من جنود الأمن المركزى فى «شارع المبتديان» تحديدا أمام البناية التى أقطنها. يلقون القنابل علينا، فيجرى شاب ويخطف أحدها ويقذفها على بساط النجيل فى حديقة دار العلوم. آخر يهرول نحو أخرى ويسكب عليها الماء. ثالث يمسك ثالثة بخرقة جافة، ثم يعيدها قذفا إلى وجوه الجنود الواقفين بلا أقنعة فى معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
فى هذه اللحظة سمعت صراخا قادما من العمارة فرفعت هامتى فإذا بزوجتى تهتف بكل ما أوتيت من قوة: «يسقط مبارك» وابنتى الكبرى تقف إلى جانبها تلوح بعلم مصر.
ساعتان كاملتان من الصد والرد، والكر والفر، والإقدام والإحجام، حتى انجلى كل شىء.
وتقدمنا نحو ميدان التحرير، وقصده الزاحفون من كل مكان حتى امتلأ، وراحت الحناجر تصرخ بكل ما أوتيت من قوة: «الشعب يريد إسقاط النظام».
فى هذا اليوم كان تقديرى أن مبارك قد سقط، وكل ما سيأتى بعده هو مجرد «تحصيل حاصل». فببساطة شديدة كان النظام فاقدا للشرعية، لا سند له من رضا أو إيمان بفكرة أو طاعة لزعيم، ولم يكن له شىء يقيم عليه عرشه، ويضع فوقه كرسيه، سوى الطاقة الأمنية المفرطة الباطشة. وحين تسربت هذه الطاقة من بين أصابعه لم يعد له ما يعصمه من الناس. لكن الأمر كان يحتاج أيضا إلى بعض الصمود. هكذا فهم الجميع حين تشابكت أيديهم وأحبالهم الصوتية وقبل ذلك أرواحهم وإراداتهم، وفتحوا طريقا وسيعا أمام العقل الجمعى المصرى ليبدع أجمل ما فيه. وقلت وأنا أطالع اللافتات الساخرة والشعارات المنضبطة والهتافات الموزونة الدالة والأغانى وطقوس الاحتجاج وأساليبه المبتكرة: «هذه أمة لا تموت أبدا».
فى الميدان كانت أمور كثيرة، لكن اكتمال الأشياء والمعانى جاء مع خروج مصر عن بكرة أبيها تدافع عن الصرخة التى أطلقها بعض الحالمين والمغامرين والمخلصين والشمس ترمى دفئها الوئيد على أسطح البنايات استعدادا لسطوع يغمر كل الرؤوس بنور الحرية.
كان الفعل يسبق القول، والواقع يسبق الخيال. هكذا أدركت ذات يوم حين كنت أقول فى إحدى وسائل الإعلام: «الثورة ستتطور أفقيا ورأسيا. حيث ستصل إلى أماكن جديدة لم تشهد احتجاجات طيلة الأيام الفائتة، وتصعد من الشارع إلى المؤسسات النقابية والهيئات البيروقراطية»، فلم أكد أنتهى مما أقول حتى أسقط المصريون حرف «السين» الدال على ما سيأتى، وجعل الواقع المستقبل مضارعا تاما.
فى الحقيقة لم يكن بعض ما قدمته فى هذه الأيام تحليلا، بل كان فى جوهره تحفيزا وتعبئة مضادة فى مواجهة ما كان يفعله النظام بقسوة عبر آلته الإعلامية الجبارة من تشويه الثورة ومحاولة إجهاض طاقتها بمحاولة تصوير من قاموا بها باعتبارهم «عملاء للخارج» و«خونة» و«شباب طائش أحمق يعرض سلامة البلاد للفوضى، ويعبد الطريق أمام التدخل الأجنبى المرير».
أعرف أن الإعلامى قد لا يهتم بالحقيقة، والسياسى تكفيه نصفها، والباحث يريدها كاملة. لكن فى هذه الأيام لم يكن من الممكن بالنسبة لى، مع انغماسى التام فى حركة النضال ضد نظام مبارك، أن أتعامل بأعصاب باردة حيال ما يجرى، بعد أن حلمت سنين بأن أجده ماثلا أمامي، وسعيت مع أخوة وأصدقاء وزملاء ورفاق، إلى تحقيقه، تارة بأقلام مسنونة سطرت على الورق كلمات حق، أو هكذا نحسبها، ضد سلطان جائر، وطورا بالتحام مع الناس فى جولات ميدانية، جُبنا فيها مدناً وقرى نستحث الهمم، بقدر استطاعتنا، على اليقظة.
كان الناس حين يجدوننى أدور بينهم فى ميدان التحرير منزلقا بجسدى بين المسارب الضيقة المتشابكة التى تصنعها تحركاتهم العشوائية، يصرخون فى وجهى: مكانك ليس هنا، فى هذا الميدان ستظهرك الكاميرات مجرد رأس بين الرؤوس، نحتاجك أن تكون هناك وراء الأثير والضوء لتصد وترد عنا بعض هذا التشويه المنظم الذى يطال شرفنا ومسلكنا. بعضهم كان يقول: كن بيننا لأن وجود الكتاب والمثقفين مع الناس يعطيهم قوة.
وحافظت على الاثنين، فقضيت أيام الموجة الأولى للثورة متنقلا بين الميدان والأستديو. فى الأول أجيب على أسئلة لا محدودة يسمعها عدد محدود. أما فى الثانى فأجيب على أسئلة محدودة يسمعها عدد لا محدود. إنه الإعلام، القوة الناعمة الجبارة، التى لم تعد ناقلة لما يجرى بل صارت تساهم فى صنعه إن لم تصنعه من الصفر.
لكن الميدان أيضا كان مغريا بشكل منقطع النظير، ليس لناشط سياسى فقط، بل لروائى وباحث فى علم الاجتماع، السياسى يتأمل ما يجرى فى دنيا الناس ليصل إلى مؤشرات واقترابات وتصورات وربما نظريات علمية، أو يرسم لوحات إنسانية عامرة بالجمال والمعانى.
هكذا صارت هذه العلاقة التبادلية بين رجل يتحلق حوله كثيرون ليعلمهم فإذا هو أيضا يتعلم منهم دون أن يدروا.
رفضت كثيرا الصعود إلى المنصات لإلقاء كلمة أو خطبة على مسامع المحتشدين، وفضلت دوما أن أكون بينهم على قدم المساواة، لاسيما أيام الموجة الأولى للثورة. مرة وحيدة كنت أنبه إلى بعض الأمور، وقال لى أحد الشباب يجب أن يسمع الجميع ما تقول، وجذبونى إلى المنصة فقاومت، لكنهم حملونى ووضعونى عليها فكان أول ما قلت: «لم آت إلى هنا لأعلمكم شيئا، فقد قلنا وكتبنا الكثير حتى تولد هذه اللحظة، وآن الأوان أن ننصت لنتعلم من الشعب. عندها صفقوا بقوة، وأنصتوا فقلت: سندافع عن هذا الميدان باستماتة، فإن أخذوه عنوة، لن ننصرف إلى مخادعنا لننام، بل إلى أسطح منازلنا، ونهتف من على هاماتها: الشعب يريد إسقاط النظام. لا سبيل أمامهم إلا أن يرضخوا، فالشعب إن أراد كان له ما يريد. نحن لن نستسلم وليس أمامنا من خيار سوى النصر، النصر فقط».
فى الجمع التالية كان بعض الشباب يضعون أسماء بعض الناشطين والمفكرين والساسة البارزين ليلقوا كلمات فى الجماهير الغفيرة، ورتبوا لى خمس مرات، صعدت فى اثنتين وفى الثلاثة بقيت بين الناس، أنصت وأتكلم، وتنهمر الأسئلة ولا تسعفنى رأسى بكل الإجابات فى ظل غموض السلطة وعنادها، لكن الشىء الثابت الذى كنت أفعله دون توقف هو منح الأمل، وحين كان يسألنى كثيرون حتى عقب تعثر المد الثورى، هل أنت متشائم؟ كنت أبتسم وأجيب: لا أملك أصلا مزية التشاؤم. فمن يفقد الأمل يمكنه أن يترجل ويعطى ظهره لكل شىء ويستريح، وأنا ليس بوسعى أن أفعل هذا أبدا.
لقد أحيا ميدان التحرير السياسة التى أماتها نظام الرئيس المخلوع، وعوض تخاذل أحزاب المعارضة عن أداء دورها فى تعليم الناس فن ممارسة السياسة، وتعبئتهم حول القضايا العامة، وجذبهم نحو المشاركة السياسية الفعالة والإيجابية.
هذا الميدان هو مركز المعرفة والتنوير السياسى الآن، وهذا ما آمنت به من لحظة امتلائه يوم الانطلاق الكبير. ولذا رفضت الانضمام أو الانجذاب أو حتى التقارب من الكيانات والتكوينات التى أنشأها البعض لتتحدث باسم الثورة أو تمثلها، فجميعها لم يكن يمتلك هذا الحق، لأنه ولد ولادة قيسرية أو أطل علينا فى عجلة، ولذا لم يقتنع الناس بها، لتبقى الثورة المصرية شعبية بامتياز، ولها وحدها أو لمن صنعوها وحدهم حق اختيار من يتحدث باسمها واسمهم، وهذا هو المنتظر والمرتجى.
يبى الثانى وكانت «ثورة جياع» وشرحتها فى الثانى بإسهاب، مع إسقاط لا تخطئه عين بصيرة ولا عقل فهيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ