السبت، 21 يناير 2012

الابتزاز والاعتزاز بقلم مفيد فوزى ٢١/ ١/ ٢٠١٢


نحن شعب عاطفى انفعالى يستخدم العقل أقل، والشعوب المتقدمة لا تلغى العاطفة أو الانفعال، لكن للعقل مساحة أكبر، ويبدو أننا عشنا قرابة نصف قرن فى «غلاية»، وانفجر الغطاء فخرجت الحمم البركانية مُحملة بالكبت والحقد وشهوة الانتقام، ثم عام البلد فوق بركة من الفوضى وسقطت المعايير، وافترست العقول «سلعوة» التناقضات، التى لا تزال تمرح وتشقينا.
مثلاً، فى الوقت الذى يردد فيه الميدان هتافات بإلغاء المحاكمات العسكرية، وإحالة المدنيين إلى القضاء العادى، ورفض إحالتهم للقضاء العسكرى، فى الوقت ذاته يثورون على الأحكام إذا جاءت على غير هواهم، أو لم تلق قبولاً لديهم.. رفضوها واتهموا القضاء بالانحياز، منتهى التناقض غير المفهوم، فالحالة الأولى تعكس ثقة واحتراماً لأحكام القضاء والاعتزاز به حصناً شامخاً، ثقة فى عدالته وحيْدته وتجرده، والحالة الثانية - حين يثورون على الأحكام - تعكس ابتزازاً وتناقضاً بين القناعة و«الفعل».
أثناء تداول محاكمة القرن التى يحاكم فيها الرئيس السابق وأعوانه بدأت حملة الترويج لشائعات إصدار أحكام بالبراءة، وتناثرت الشائعات من مدعى العلم ببواطن الأمور، واتسع مداها إلى مسامع أهالى الشهداء، والمدعين بالحق المدنى الذين تلقفوها بإحساس مدمر بالصدمة، وكأن هذه الشائعات باتت حقائق مؤكدة، وخرجت بعض الأصوات فى التظاهرات تهدد بتوقيع القصاص بأنفسهم على المتهمين! أى أنهم «سيأخذون حقهم بيدهم»، وقد شعروا أن القضاء لم «ينصفهم»، وصار المشهد غريباً ومحيراً ومتناقضاً ومقلقاً، لقد «غابت» الثقة فى القضاء، نفس القضاء الذى يعتزون به، ويطالبون بإحالة المدنيين إليه لا للقضاء العسكرى!! ومن الأمانة - دون مزايدات - أن أجزم بأن هذه المشاعر مبررة وطبيعية ومشروعة، فالمصاب جلل والخسارة فادحة، وفراق الأعزاء مُحزن ودامٍ وأليم. كان الميدان يتعجل محاكمة الجناة، وأتصور أن «الاستعجال» يفتقد الإنصاف وربما العدالة أيضاً، وإلا صارت «عدالة بقدم واحدة»! ثم كيف لا للمحاكمات العسكرية والتذمر لمحكمة بديلة؟!
فهل تنعقد المحكمة فى الميدان؟! ثم - بالعقل - كيف يكون القضاء عادلاً إذا حكم بالإدانة وظالماً حين يحكم بالبراءة؟ إن الذى يرضى بأحكام القضاء ويطمئن إلى نزاهتها، ويثق فى تجردها لا يثور عليه، ولا يرفض أحكامه ولا يكيل له الاتهامات إذا جاءت هذه الأحكام مخالفة لتوقعاته أو لرغباته، ولعل أخطر وأفدح ما يمكن أن يتعرض له القضاء فى هذه المرحلة، أن تصك صرخات الشارع مسمعه وتدميه فى أذنيه، فتحول أبصاره عن رؤية الأوراق أمامه، وتفلح فى كسب تعاطف أو عداوة ضد ما ينبغى أن يُقضى به لظروف الوقائع والثابت فى الأوراق، ويقينى أن وقتها سيغيب التجرد وتنتقص الحيدة، فهل يأتى اليوم الذى «ينعى» فيه التاريخ القضاء أنه «مال مع الهوى»؟!
 ليكن مفهوماً أن تأجيل أوقات المحاكمات أمام أى دائرة تنظر قضية من القضايا محل اهتمام الرأى العام، هو «ضرورة قانونية» للاطلاع، وتحليل ما دار فى الجلسات السابقة، لابد من «تفصيص» الأوراق ليصل القاضى إلى كبد الحقيقة بين مرافعة الدفاع ومرافعات المدعين بالحق المدنى، ومرافعة النيابة العامة، فهو يبحث عن الدليل الذى «لا يقبل الشك أو التأويل».
 إنه يصم أذنيه عن مطالب الشارع ورغباته، صحيح هو لا يتأثر، لكنه بشر وينزعج. للثوار وأهالى الضحايا وللمصابين، لا تقولوا شكراً للقضاء إذا أدان، ولا تغضبوا منه إذا أصدر أحكاماً بالبراءة، فهو فى الحالتين يؤدى واجبه ويفى بالأمانة التى عهد إليه بها ليحقق «العدل» الذى هو اسم من أسماء الله الحسنى «جل جلاله».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ