الأربعاء، 25 يناير 2012

د. يوسف زيدان يكتب: خروجاً عن السياق المجدُ السماوىُّ لثورتنا المصرية ٢٥/ ١/ ٢٠١٢


تعدُّ هذه المقالة خروجاً عن السياق، لأنها تقطع «السباعية»، التى أكتبها هذه الأيام، آملاً فى إلقاء بعض الضوء على منارات الحكمة العربية. وذلك فى إطار ما طرحته على نفسى والتزمتُ به، من ضرورة إعلان العام الحالى (٢٠١٢) عاماً للمعرفة بتجلياتها المتعددة، استنقاذاً للعقل الجمعى من الغرق بين موجات الجهل الداعية للعودة بالمجتمع إلى الوراء، ومآسى التسطيح التعليمى فى غمرة الهيجان الإعلامى المتلاعب بالعقول بمثيرات الانتباه، سعياً للكسب المادى المتمثل فى قولهم (فاصل ونعود) ويعود من بعده الصخبُ المشوِّشُ لأذهان المشاهدين.
ولما سبق، ولغيره من دواهى الجهالة المعربدة بمصر اليوم، رأيتُ أن أبادر بطرح «المعرفة» عنواناً لهذا العام وشعاراً للأنشطة التفاعلية، سواء عبر المناقشات الفلسفية التى أشارك فيها القراء والأصدقاء بصفحات الفيس بوك، أو الملتقيات الشهرية بالصالون الثقافى الذى أقيمه بساقية الصاوى، أو عبر هذه السباعيات التى سأشرع من خلالها بعد (منارات الحكمة العربية) فى كتابة سباعية عن (أعمدة الحكمة اليونانية) تليها (أصول الحكمة المصرية القديمة) تليها (علامات طريق الحكمة الحديثة)، وهكذا حتى ينتهى العام على خير!.. وقد قيل لى إن مثل هذه الموضوعات ليست مناسبة للكتابة فى الصحف، وقد تُفقدنى كثيراً من قرائى. فقلتُ للقائل إن فى كلامه اتهاماً بالسطحية لقراء المقالات بالصحف (وهذا لا يجوز فى حقهم) وإن القراء ليسوا ملكى حتى يصح القول بأننى سأفقد كثيراً منهم. وإنما هم الجانب المقابل للكاتب، بل هم بالنسبة إليه كالمرآة، وبدون القراءة الواعية لا يكون للكتابة معنىً وهدف. والهمُّ العام فى نهاية الأمر، لا بد أن يجمع بين الكاتبين والقارئين (بين الإلقاء والتلقّى) والأثر الناشئ عن ذلك لا يجب أن نقيسه بالعدد، بل بالعمق.
■ ■ ■
من هنا جاءت مقالة اليوم خروجاً عن السياق، واستثناءً ضرورياً ولازماً، لأن اليوم يوافق العيد السنوى الأول لاندلاع الثورة المصرية فى يناير الماضى، وليس من اللائق أن نتحدث اليوم عن موضوعٍ آخر، مهما بلغت أهميته.. وبدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن العنوان الذى اخترته للمقالة، لا يحمل أى دلالات دينية، وإنما المراد بالسماوىِّ من المجد، هو «الأعلى» منه. وذلك وفقاً للمعنى اللغوى الفصيح لكلمة «سماء»، حيث تُرادف الكلمة ما صرنا نقصده حين نستعمل كلمة «سقف». ولذلك تقول معاجمُ اللغة إن «كل ما أظلَّك وعلاك، فهو سماء» وتقول الناسُ «سماء الحجرة»، قاصدين سقفها الأعلى.. وكذلك: سماء القاعة، سماء الغرفة، سماء الكون..
فما معنى القول بأن الثورة المصرية لها المجد السماوى، الأعلى؟ معناه أنها حين اندلعت شرارتها فى مثل هذا اليوم من العام الماضى، كانت بدايةً تبشِّر بتحليق «الشخصية المصرية» فى أفقٍ لم تصل إليه من قبل، لأن تاريخنا الطويل لم يعرف مثيلاً لهذه الثورة.. قد يعترضُ على ذلك معترضٌ يقول: فما بال الثورات المصرية السابقة، كثورة الضباط الأحرار عام ١٩٥٢ وثورة عرابى قبلها، ومن قبلها ثورةُ المصريين ضد الحملة الفرنسية، وثورةُ البشموريين وثورةُ القرامطة وغير ذلك من ثوراتٍ سابقة؟ ولهذا المعترض نقول: كانت كلها ثورات محدودة بحدود القائمين بها، ولم تصل قَطُّ إلى «سماء» ثورة يناير الماضى.. الضباطُ الأحرارُ (جداً) كانوا يسعون إلى السلطة السياسية بإزاحة الملكية الوراثية وإقرار الجمهورية، التى يجب أن تتداول السلطة فيها بين المدنيين، لكنهم بعد ثورتهم التى رضى عنها الشعب (مع أنه لم يكن قبلها يعلم عنها شيئاً) صاروا ملوكاً وطغاةً باسم الجمهورية، يتوارثون الحكم داخل نطاقهم (ضابطاً عن ضابط) فكان الحكم دولةً فيما بينهم، لا يحق لأى شخص غيرهم. والأنكى من ذلك وأفدح أثراً، أن الشجرة العسكرية الحاكمة فى مصر، انسربت منها من تحت الأرض جذورٌ تفرَّعت خلف الحدود، وانعكست «عسكرةً» فى ليبيا، واليمن، وسوريا. وها هى الشعوب الشقيقة فى تلك البلدان، تعانى حتى اليوم من ويلات هذا التفرُّع والانعكاس.. وكانت ثورة عرابى، هى الأخرى، مفصولةً عن عموم المصريين (حتى ولو كانت تسعى لتحقيق الخير لهم) ولم يشترك فيها إلا الضباط وبعض الخطباء، وسرعان ما وقع الانشقاقُ والتفرُّق والتمزُّق، ثم وقعت هزيمة الجيش الثائر أمام الإنجليز، وانتهى الحالُ إلى احتلال البلاد..
وكانت الثورة ضد الحملة الفرنسية «صفوية» وبتعبير آخر «أزهرية» ولم يحدث أن تغلغل الروحُ الثورى أيامها فى قاع المجتمع المصرى أو تخلَّل طبقاته المتعددة، فانتهى الأمرُ إلى تنصيب أحد الضباط المرتزقة «محمد على» سلطاناً على مصر، كأنه لم يكن آنذاك من المصريين من يستحق أن يحكمهم، حتى رفعوا فوق رؤوسهم (بنوعٍ من العبودية المختارة) هذا الضابط الذى وفد على مصر قبلها ببضع سنين، وجعلوه ملكاً عليهم يتوارث أبناؤه الحكم من دون أن يقتربوا من المحكومين، أو حتى يتكلموا من لغتهم العربية، إلا بعبارة واحدة: فلاح خرسيس نرسيس! فكان الملك «فؤاد» بعد قرابة قرنٍ من ابتداء حكمهم، هو أول من تكلم العربية من أسرة محمد على. ليس حباً فى العربية أو المصرية، وإنما لأنه كان يطمح أن يكون سلطاناً للمسلمين و«خليفة» لهم بعد إسقاط كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية فى الآستانة (إستانبول) سنة ١٩٢٤.
وأما ثورات القرامطة والبشموريين وأمثالهم، فقد كانت فوراتٍ محدودةً بالجماعة التى قامت بها، ولأهداف تخصها. وشرط الثورة «الحقة» أن تكون عموميةً، بمعنى أن تحرِّك معظم طبقات المجتمع.. وهنا تجب الإشارة إلى أن التحرُّكات «المليونية» التى أبدعتها ثورة يناير الماضى، كانت أعمَّ وأكبرَ من اسمها (مليونية) ومن صورتها المبثوثة عبر الشاشات، لأن حركة الشخص الواحد المشارك فى المظاهرة، كان يتوازى معها حركةُ مصريين كثيرين لم يظهروا على شاشات التليفزيون ولم يحسب أحدٌ عددهم. فخلف الجدران كانت الأمهاتُ أثناء التظاهر تبتهل لنجاة الأولاد والبنات، وكانت ربات البيوت تقدِّم الماء والطعام للسائرين فى هذه المظاهرة أو تلك، وكان الكُتاب يكتبون، والعاملون بمؤسسة الكهرباء يجتهدون كيلا ينقطع التيار. ولذلك، قطعت ثورةُ يناير رأس الفساد فى مصر، من دون أن تنقطع الكهرباء! وكذلك كان يفعل معظم العاملين فى المؤسسات المصرية التى ظلت متماسكة عقب قصف رؤوس الاستبداد والفساد (مبارك وعصابته القميئة) ولا عبرة هنا بالقول السخيف الذى صار يتردَّد مؤخراً، زاعماً أن الجيش المصرى هو المؤسسة الوحيدة المنضبطة والمتماسكة والمحافظة على النظام فى مصر، وكأن الجيش هو الذى «يعول» البلاد، مع أن الصحيح هو أن الناس هم الذين يدفعون رواتب الجيش من ضرائبهم.
ولعل الأقرب من ثورات مصر السابقة، لثورة يناير الماضى، هى ثورة ١٩١٩ التى لم يزل المصريون يعتزّون بها، على الرغم من مرور قرابة قرنٍ من الزمان على وقوعها.. غير أن الثورتين تختلفان اختلافاً جذرياً يتمثل فى تحلُّق ثورة ١٩١٩ حول شخصية «سعد زغلول» والذين كانوا معه أيامها، وعُرفوا باسم: الوفد. بينما تجوهرت ثورة يناير حول «الشخصية المصرية» ذاتها، وظل أغلب أبطالها مجهولين (وما علينا من هذه القلة التى تصدرت وسائل الإعلام، على اعتبار أنهم صُنَّاع هذه الثورة ورموزها).. ومن ثم، فإن ثورة يناير هى أكثر الثورات المصرية، مصريةً.
■ ■ ■
إذن، لثورة «يناير» المجد السماوى الأعلى فى التاريخ المصرى، لأنها أكثر الثورات عموميةً وصدقاً فى تاريخنا الذى نتباهى دوماً بأنه امتد لسبعة آلاف سنة، ولا نشير أبداً إلى أنها كانت سبعة آلاف عام من الاستبداد السياسى والاستئثار بالحكم، وكانت مرهونة بطبيعة الحاكم: إن كان طيباً عاش الناس فى ظله حياةً طيبةً، وإن كان بغلاً من الطغاة انكشفت سوءات الناس وعانوا الويلات.. وعلى المعترض على ذلك أن يخبرنا: كم مرة خلال تاريخنا الطويل، اختار الناس فى مصر حاكمهم؟
سيقول هواة الاعتراض: لا تَقِسْ الماضى على الحاضر، ففى الأزمنة القديمة والوسطى لم يكن مثل هذا الأمر مطروحاً، وكان من طبيعة الحكم السياسى أن يكون وراثياً، ولا يخضع لرأى الجمهور.. طيب، وما قولك أيها المعترض الأبدى فى أن «الديمقراطية» كان معمولاً بها منذ الزمن اليونانى القديم، وكان الناس فى ذاك الزمان يختارون حكامهم ونوابهم وممثليهم، أو يسقطونهم إذا لزم الأمر. وما قولك فى كيفية اختيار «الخلفاء الأربعة» للحكم فى صدر الإسلام، وقد كانت مصر تابعة لهم. وما قولك فى الأشكال المتعددة التى كان يتم بها اختيار أباطرة روما وبيزنطة، وقد كانت مصر تابعة لهم. وما قولك فى أن «الوراثة» لم تكن السبيل الوحيد للحصول على السلطة السياسية، وإلا لما كانت (الأُسرات) المختلفة قد تعاقبت على حكم مصر القديمة، وما كانت مصر قد أتاحت عروشها القديمة لأسرة نوبية وأسرة ليبية (كانت ليبيا والنوبة والسودان أجزاءً من مصر).
إذن، لا اعتبار للاعتراض على استدامة القهر السياسى فى تاريخنا، بأن تلك كانت طبيعة العصور الماضية. وحتى لو سلَّمنا بذلك جدلاً (مع أنه غير صحيح) فهل يجب أن نبقى للأبد فى حكم العصور الماضية، وهل كان علينا أن نقبل صاغرين امتداد حكم مبارك لأكثر من ثلاثين سنة؟ وهل كان علينا أن نرضخ للسعى الحكومى الرخيص، الهادف لتوريث جمال مبارك الحكم من بعد والده؟ ولا بأس آنذاك بأن ندعو الله لأن يهب هذا الوارث التعيس ابناً، كى يرثنا من بعده.. وهل كان علينا قبول الاحتقار..
لقد كانت ثورة يناير قَدَراً محتوماً لا بد من وقوعه.
■ ■ ■
وتمجيداً لثورتنا فى العيد الأول لاندلاع شرارتها الأولى، وتأكيداً لأهمية استمرارها رشيدةً واعية؛ لا بد لنا من دفع بعض الظنون والشبهات التى لحقت بها منذ مولدها، ولا تفتأ تلحق بها فى كل حين.. فمن ذلك الزعمُ بأن الثورة المصرية كانت «صدى» للثورة التونسية التى أطاحت بالرئيس الغتيت زين العابدين (الهاربين) والزعم بأن ثورة تونس نجحت، بينما فشلت الثورة المصرية فى تحقيق مناها. وهنا نقول: الثورة فى البلدين كانت لها تحضيرات ومقدمات كثيرة أكدت ضرورة اندلاعها هنا وهناك، غير أن «معارضة النظام» كانت تجرى فى الحالة التونسية من خارج البلاد، وتحديداً من فرنسا، بينما جرت المعارضة المصرية من داخل الحدود، فلم يكن المعارضون بعيدين عن قبضة النظام المصرى الذى حرص على تكسير عظامهم أو تليين ما يقبل اللين منها.
 وتأججت ثورة تونس عقب إشعال الشاب «بوعزيزى» النار فى نفسه، استعلاناً لرفضه الظلم وعسف الشرطة، وهو الأمر الذى سبقه إشعالُ الشابِّ المصرى (سائق التوك توك) النار فى نفسه بشارع «خمسة وأربعين» بمنطقة «سيدى بشر» السكندرية، استهانةً باستهانةٍ بعسف الشرطة أيضاً، فالتهبت المنطقة السكندرية وتقلقلت لفترة، ولم تستطع قوات الأمن السيطرة عليها لفترة، فيما عرف وقتها بأحداث شارع خمسة وأربعين. وهو ما حدا بالأبالسة إلى تدبير حادثة كنيسة القديسين بالمنطقة نفسها «سيدى بشر»، لصرف الأنظار عن الالتهاب المتأجج هناك، فكانت الفاجعة التى صدمت المصريين فى مطلع العام الماضى، قبل انطلاق الثورة المصرية بخمسة وعشرين يوماً، وتم تدبير الأمر على شاكلة المذبحة التى جرت بالأقصر عام ١٩٩٧، ونجحت فى صرف أنظار المصريين، والعالم كله، عن بلايا النظام الحاكم فى مصر.. ومن الإسكندرية، أيضاً، انطلقت حركة «كلنا خالد سعيد» وهو الشاب السكندرى الذى قتله الأمن، زاعماً أنه كان يتعاطى المخدرات ويتاجر فيها، فلم يصدِّق ذلك معظم الناس وانطلقت الحركة التى استجمعت القوى الحرة فى مصر، على الفيس بوك وتويتر، ومهدت للخروج المصرى العظيم، من قبل أن يقوم التونسيون بتنظيم وحشد قواهم لخلع الضرس المؤلم المتربع على كرسى الحكم.. ولأن الضرس المصرى كان أكثر تجذراً، وإيلاماً، ولأن الحالة المصرية أكثر تعقيداً ورسوخاً فى أرض الفساد من الحالة التونسية، فضلاً عن الفارق العددى الكبير بين سكان البلدين، فقد كان الطبيعى أن تكون تونس أسرع خروجاً من المأزق الثورى، بينما صار على مصر أن تعانى أكثر، ولزمنٍ أطول، نظراً لرسوخ الفساد فيها وهيمنته على قطاعات عديدة خلال السنوات الثلاثين (المباركية) التى تزيد عدداً وحنكةً واتساعاً عن سنوات فساد الرئيس التونسى المخلوع.
■ ■ ■
ومن الظنون والشبهات، الزعم بأن الجيش المصرى حمى الثورة، والمبالغة فى تأكيد هذا الأمر إعلامياً خلال الأسابيع التالية لإسقاط الرئيس مبارك، وذلك من دون بيان للخطر الذى (حمى) الجيشُ الثورة منه! فهو (الحامى) فى المطلق، على قاعدة أن الثورة «مستهدفة» مثلما مصر «مستهدفة» وهى واحدة من الأوهام التى طالما روَّج النظام السابق لها، كى يشعر المصريون أن نظامهم السياسى (يحمى) البلاد، من دون بيان للخطر الذى يحمى هذا النظام البلاد منه. ولما كتبتُ هنا أيامها، منادياً بوجوب العمل سريعاً لعودة الجيش المصرى إلى عمله الأصلى (حماية الحدود) لم يلتفت إلى ذلك كثيرون، لأنهم كانوا سكارى يترنحون تحت مفاجأة الثورة، ويرتاحون لفكرة أن «الشعب والجيش يد واحدة» آنذاك، وصرَّحتُ بأن بقاء الجيش فى المدن، واستدامة اللعب السياسى، مفسد للروح العسكرية ومؤشر خطير يدل على استبقاء التوتر العام فى أنحاء البلاد (ولم يكن ذلك قدحاً فى الجيش، وإنما كان تأكيداً على أنه غير مؤهل للإدارة السياسية والتعامل مع الجموع المسماة فى مصطلح الجيش: المدنيين) ولكن كثيرين لم يهتموا بذلك «فكان ما كان مما لستُ أذكره، فظُنَّ شراً ولا تسأل عن الخبر»، كما يقول البيت الشعرى القديم، مع تعديل بسيط فى لفظٍ منه.
والآن، وفى العيد الأول لاندلاع شرارة الثورة المصرية، أعود للقول بأن قادة الجيش عليهم أن يلتزموا بما أعلنوه من تسليمهم السلطة بعد خمسة أشهر من الآن، وأن يخلصوا النوايا لتحقيق ذلك. وإلا صار عيشهم، وعيش الناس فى مصر، مُرَّاً كالعلقم! ولن تفلح فى تمرير «تأجيل» هذا الأمر، أية حُجج بائسة أو مماحكات من نوع: البلاد لاتزال فى خطر، الأحوال المصرية غير مستقرة، مصر مستهدفة.. إلخ.
لن يكرر المصريون، مهما ظنَّ الظانون، خطأهم يوم وثقوا فى أن الضباط الأحرار (جداً) سوف يسلمون السلطة بعد ستة أشهر من ثورتهم، أو انقلابهم على القصر، عام ١٩٥٢! ولن يغفر المصريون، مهما توهَّم المتوهمون، لمن سيتعامل معهم مجدداً على قاعدة احتقار الحاكم للمحكومين، أو يعتقد بأنهم بدن هامد قد يفعل به كل فاعل ما يشتهيه.. لأن درس الاحتيال من أجل البقاء فى السلطة، ما برح ماثلاً فى وعى الناس! ودرس الثورة «الحقة» التى سعى كثيرٌ من أعدائها لتحويلها إلى مجرد «فورة» لا يزال باقياً فى الأذهان.
■ ■ ■
ومن الظنون والشبهات، الزعمُ بأن الثورة المصرية فشلت وأدت إلى تدهور أحوال البلاد والعباد، بل يتبجَّح بعض الزاعمين بأن أيام مبارك كانت أفضل من أيامنا الحالية، لأننا صرنا من بعده نعانى من كثير، بل وصل الهوس ببعضهم إلى المناداة بعودة المخلوع إلى الحكم، والبهرجة على الناس بقولهم إنه لايزال الرئيس الرسمى لمصر! وعلى الحقيقة، فنحن صرنا نعانى الكثير بسبب استدامة بقائه فى الحكم لثلاثين سنة، وليس لأنه أطيح به وأُزيح عن الكرسى. وقد أُزيح معه رؤوس فساده وبقيت «الأذناب» تلعب فى الخفاء، وتفجؤنا كل حين بالألاعيب الطامحة إلى عودتهم لزمنهم الهنىِّ المريح! ولكن الزمن لا يعود إلى الوراء، ولن يستعيد هؤلاء الذين ندعوهم اليوم الفلول (وهى تسمية خاطئة على كل حال) ما كانوا فيه يرتعون. على أن الثوار الذين قاموا بالموجة الأولى، يجرى فى الأشهر الماضية التشكيك فيهم، وإخراج ما يستوجب الإحراج من تاريخهم: فهذه الثائرة لها ماضٍ، وتلك الناشطة ليست عذراء، وهذا الثائر يتلقى معونات خارجية وأجندات وكراسات، وذلك منغمسٌ فى الملذات.. إلى آخر هذا الترهات التى صرنا نسمعها اليوم من كل زاعق وناعق وأراجوز، ممن تصدَّروا شاشات القنوات البلهاء، بل صارت لهم قنوات خاصة.
ولما سبق، لا بد فى العيد الأول للثورة أن يستجمع الناس قواهم الثورية، ولا ينهمكوا فى الخلاف فيما بينهم فيفشلوا وتذهب ريحهم. وليحافظوا على سمة «العمومية» التى طالما نعى بها أعداء الثورة عليها، قائلين بأنها ثورة بلا قائد! وما أظن أنهم أرادوا بذلك إلا تحديد الأهداف (قواد الثورة) للقضاء عليهم أو تشويههم أو إفسادهم، فينالون بذلك من الثورة ذاتها.. وللأسف، ولسذاجة البعض، فقد تصدى بعض ممن شاركوا فى الثورة للأمر، وأعلنوا أنفسهم رموزاً للثورة المصرية، وتحدثوا باسمها من دون أن يفوضهم أحد، وحدثتهم نفوسهم بأنهم صُناع الثورة.. فكان جزاؤهم: التشويه، الضرب، السحل، الاستهلاك الإعلامى، التشكيك فى النوايا، التفكيك فى المواقف.
والجميعُ اليوم يُجمع على أن الثورة لم تحقق جميع أهدافها، وهذا صحيح. والكل يؤكد أن أذناب الفساد لم تزل تعمل جاهدةً لإفشال الثورة، وهذا صحيح. وكثيرٌ من أهل النقاء والنُّبل الثورى يعلنون أن الثورة المصرية لا بد أن تستمر، وهذا صحيح.. ولذلك، لن يصح المسار الثورى إلا بالاستمرار والسير قُدماً حتى نهاية المطاف مع مراعاة أن للثورة الحقة فقهاً وأصولاً لا بد من الاستمساك (بوعىٍ وبغير عنفٍ) بها؛ فمن ذلك ما نورده فيما يلى على جهة الإيجاز:
أولاً: الثورةُ عموميةٌ بالضرورة، ولكن لا توجد ثورة فى المطلق. فلا بد من تحديد هدف واحد (أساسى) لكل موجةٍ من الموجات الثورية المتتابعة.
ثانياً: الثائر شخصٌ نبيلٌ بالضرورة، ورشيدٌ، فهو يستهين بالموت من أجل خير الجماعة التى يتوحَّد معها ويثور من أجلها. ولذلك، لا ينبغى أن يتشتت نظره عن هدفه، فهو عارجٌ نحو مطلوبه ولن يلتفت حتى يصل (هذه فى الأصل، عبارةٌ صوفيةٌ تُخبر عن حال المريد الصادق).
ثالثاً: للثورة أطوار ومراحل متعاقبة لا بد من المرور بها. فلا يظنن أحد أن التظاهر والخروج إلى ميادين الحرية هو المعادل الموضوعى للثورة، فما ذلك إلى أحد المظاهر المؤقتة، ومحض واحدة من المراحل الثورية.
رابعاً: الهدفُ السياسىُّ للثورة هدفٌ أساسىٌّ، ولكنه ليس الهدف الوحيد، فإذا اقتصرت عليه أىُّ ثورة قلَّ أثرها وخمدت سريعاً. أما الثورة الحقة، فلا بد من اقتران مساراتها الثورية، ومن التوازى بينها: ثورة سياسية، ثورة تعليمية، ثورة معرفية، ثورة إدارية.. لأن هذه المسارات جميعاً تدفع بعضها بعضاً، وبهذا الدفع تتقدم الجماعات الإنسانية بعد ثوراتها.
خامساً: كل ثورةٍ هى بالضرورة خروجٌ على السلطة الأبوية العليا (البطريركية) ولولا هذا الخروج لما قامت أصلاً. غير أن خمود الموجات الثورية يقترن ببحث الثوار عن «أبوية» بديلة، تكون أقرب للروح الثورى، وغير مقدسة، وهنا يقع الثوار فى فخاخٍ كثيرة، وقد يؤدى ذلك بهم إلى فقدان الثقة فى كل شخص، وفى أنفسهم أيضاً.
سادساً: الثورة تهدف إلى التغيير العام، لكن الثوار سرعان ما يتخيَّلون أن ما قاموا به سوف يجعل الحياة نعيماً مقيماً، وهو وهم عظيم ناتج من براءة الثائر وطموحاته التى لا تنتهى.. وهذا خطيرٌ.
سابعاً: للثورة موجاتٌ، يجب أن يتدبَّر الثوار أمرهم ما بين موجة أخرى، وما تليها، حتى يرشد المسار العام للثورة وتنتظم موجاتها وصولاً إلى شاطئ الأمان.
■ ■ ■
وبعد.. فقد تجاوزت هذه المقالة المساحة المخصصة لها، فلن أزيد على ما سبق إلا رجائى بأن يمرَّ اليوم على خير، حتى نعود الأسبوع القادم لما كنا نتحدث فيه عن منارات الحكمة العربية، آملين من ذلك فى تعميق المعرفة وإشاعة الوعى العام. لأن الجاهل غير البصير إذا ما أراد أن يُصلح، أفسد من حيث لا يدرى وأُفسِد سريعاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ