الاثنين، 2 يناير 2012

مصر فى عيون الفرنسيين


  بقلم   د. محمود عمارة    ٢/ ١/ ٢٠١٢

رحلة عمل خاطفة إلى فرنسا، بعد مكالمة من إحدى شركات التصنيع الغذائى الشهيرة بمنطقة «نورماندى» لإنتاج وتصنيع وتسويق «كبد البط» Foie Gras وهى «قصة مصرية» سأعود إليها قريباً، كمشروع يمكن من خلاله رفع قيمة الصادرات المصرية بعدة مليارات، باعتبار أننا نملك كل مقومات نجاحها، والسوق الفرنسية وحدها تستهلك منها ٢١ ألف طن، أكرر ٢١ ألف طن، ينتج منها ٨ آلاف طن والباقى يستورد من المجر، وبولندا، وإسرائيل، رغم أن القصة فرعونية ١٠٠٪، ونستوردها فى مصر ليباع الكيلو بألفى جنيه فى «فوشون» بالزمالك ومدينة نصر!
وصلنا شارل ديجول، ومن تحت مبنى المطار كان القطار السريع TGV، ثم بالسيارة إلى قرية مغمورة لا يزيد عدد سكانها على ٦٠٠ نسمة من الفرنسيين الأصليين، لكن على أطرافها يسكن ٢٥٠٠ عامل وتقنى من المهاجرين (مغاربة، توانسة، أفارقة)، يعملون بمزارع ومصانع المواد الغذائية، والمعارض التابعة لها. فندق ضخم بمدخل القرية يعج بوفود أجنبية صينية، وهندية، وإسبانية، ومغربية، كل يبحث عن جذب مستثمرين من ذوى الخبرات، والتقنيات لنقل التكنولوجيا، وفتح أسواق، والمشاركة فى المعارض الجوالة المنتشرة فى كل الأقاليم والمدن والقرى الفرنسية (وهكذا يجذبون ٧٥ مليون سائح سنوياً)، وبمجرد سماع كلمة Egyptian، أى مصريين، اتجهت إلينا الأنظار، وانهمرت عشرات الأسئلة، والاستفسارات، وجاء الحوار كالتالى نصاً:
ماذا حدث؟ لقد انتبه العالم كله إلى «ثورتكم» التى علمتنا دروساً فى التحضر، وتوقع الجميع أن تعود «مصر» لتساهم فى تقدم البشرية، لأنكم ربما لا تقدرون قيمة بلدكم الذى أهدى الإنسانية أعظم حضارة فى التاريخ، ليصبح «أم الدنيا»، وكلنا نتخيل أن لديكم «مشروع مارشال» لنهضة مصر.. فلماذا تعثرت الثورة؟
قلت: الحقيقة أن العالم كله كان متعجلاً لعودة الدور المصرى الحضارى والثقافى والإنسانى، وإذ نشكر لكم ثقتكم فينا كمصريين، إلا أننا وللأسف كبعض الثورات المماثلة وقعنا فى قبضة «فلول» النظام السابق وتلاميذه، الذين تواطأوا مع التيار الدينى المتعطش للحكم، وبجهلهم الفاضح بإدارة شؤون البلاد «توهونا» فى الدهاليز، ومع انشغال الثوار بحماية ثورتهم وانقساماتهم، مع عدم وجود قيادات، وبجهلنا فى الممارسة السياسية، وقعنا فى «الفخ» فتعثرت مسيرة «الثورة»، لأن الثورة كما تعلمون لكى تنجح يجب أن تحكم، أو على الأقل يلبى مطالبها من أنابه الشعب، وفى الحالة المصرية لم يحدث لا هذا، ولا ذاك، بل بالعكس استطاع آخرون «خطف الثمار»، ولهذا حدث الصراع بين «العسكر» و«الثوار» ولن يُحسم هذا الصراع إلا بتنفيذ أهداف الثورة سلمياً ومدنياً، أو بالقوة، أو بالدخول فى مشاكل واضطرابات تسيل فيها الدماء، أو بعودة الوعى والفهم للعسكرى والحكومة ليتعاملوا مع ما حدث على أنه «ثورة» وليس مظاهرات إصلاحية،
وجاء السؤال الثانى من أحد الفرنسيين: نحن نعلم أن حكومتنا من جيسكار وميتران مروراً بشيراك، وحتى ساركوزى كانوا مشاركين فى حماية «مبارك» ونظامه الفاسد، كما فعلوا دائماً مع كل الرؤساء الأفارقة الفاسدين والمستبدين من «بوكاسا» وحتى «القذافى»، لكن نحن كشعوب معكم قلباً وقالباً لتنعموا بالحرية والرفاهية، فبلدكم ملىء بالخيرات من مواد خام وموارد طبيعية، ولا أحد يشكك أبداً فى العبقرية المصرية التى لم تتح لها الظروف لإثبات مواهبها وقوتها وتأثيرها، ولهذا نحن مستعدون للتعاون معكم، وهذا فخر لنا.
- أشكرك سيدى، وأنتم تعلمون أكثر منا العلاقات الطيبة التى استمرت بيننا لسنوات طويلة، ومصر ستظل دائماً صديقاً لكل من يشاركها آلامها وآمالها وطموحاتها، وقد سعدت كثيراً وسوف أنقل هذه السعادة إلى كل أصدقائنا ومعارفنا فى مصر، وأرجو ألا تترددوا فى الاستثمار مع «أم الدنيا»، ولا تنسوا أن أفضل أوقات وفرص الاستثمار هى التى تتم وقت إحجام الآخرين، لأنه بعد أن تهدأ الأمور تتغير الظروف تماماً، وتتضاعف تكلفة الاستثمار.
واستمر اللقاء حوالى ساعة ونصف الساعة، انتهى بالتأكيد على ثقتهم التامة فى «أحفاد الفراعنة»، الذين نجحوا فى الحفاظ على وطنهم متماسكاً رغم كل المؤامرات، والغياب الأمنى، وكل المؤامرات الداخلية والخارجية، والخطايا، والجهل بشؤون إدارة البلاد، فها هم أبناء مصر بالخارج تزداد تحويلاتهم إلى وطنهم الأم من ٨ مليارات فى ٢٠١٠ إلى ١٣.٥ مليار فى ٢٠١١، بزيادة صافية تفوق ٥.٥ مليار دولار، وهى أكثر مما خسرته السياحة من ٢٥ يناير حتى الآن، وها هى الصادرات المصرية تزيد بعد الثورة بـ٢٥ مليار جنيه، أى ٤ مليارات دولار، وهو ما يعادل التسعة مليارات دولار التى تم تهريبها بعد الثورة من اللصوص والفاسدين باعتراف الجنزورى، ولهذا أقول «متخافوش» لأن عقلاء الأمة من النخبة قادرون على حماية المحروسة والنهوض بها للمكانة التى تستحقها وتليق بها، وستنتصر الثورة فى النهاية رغم أنف الجميع، لأنها الطريق الوحيد والصحيح لإحداث النهضة، وتغيير حال المصريين، ولنجدة الأجيال القادمة، والبركة فى المخلصين لتراب هذا الوطن.
اللواء حمدى عبدالكريم
«الإنسان» يرحمه الله
عرفته عام ١٩٩٦ عندما جاء باريس للعلاج بمستشفى «جوستاف روسى» من «سرطان بالنخاع الشوكى»، وكانت هناك دكتورة مصرية تسرب لنا المعلومات التى قالت وقتها على لسان «القومسيون الطبى»، بأنه: لن يعيش أكثر من ستة أشهر، وها هو قد عاش ١٥ سنة إضافية، والفضل لله، ولإيمانه العميق بالقضاء والقدر، وبالموقف الرائع لزوجته الطبيبة العظيمة التى أدت دورها بامتياز، فلهم ولكل محبيه خالص العزاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ