الأحد، 8 يناير 2012

مدمن أحلام بقلم د. أيمن الجندى


  ٨/ ١/ ٢٠١٢

يا إلهى! الصدفة وحدها هى التى قادتنى لسماع أغانٍ قديمة لم أسمعها منذ عهد سحيق. وجدتُها على (اليوتيوب) ولم أكن أظن أنها موجودة أصلاً. خلتُها ذهبتْ ورحلتْ مع الراحلين. والكوكب الأرضى لا يفتأ يدور حول نفسه، فتتطاير اللعب القديمة، والكراسات القديمة، والأغانى القديمة، ترحل إلى كواكب بعيدة، يتفحّصها سكانها فى فضول.
بالأمس عثرتُ على تلك الأغانى، فاعترانى ما اعترانى، وهجرنى النوم حتى الصباح. تجسد الماضى أمامى وهاجمتنى الذكريات! كنتُ وقتها قد دلفتُ إلى عالم «فيروز» الساحر، الذى لم أغادره حتى الآن. أستمع إلى أغانٍ لم يعد يذكرها أحد، مثل «خدنى معك على بلاد الهوى» لسمير يزبك، و«بويا بويا بويا» لنصرى شمس الدين. أغانٍ غير مشهورة بتاتاً، لا تعنى لكم شيئاً، ولكنها تعنى لى الكثير. كلماتها مطبوعة فى قلبى! لحنها! طريقة نطقها! طعمها! رائحتها! لونها! أغانٍ تستدعى بالصوت والصورة أيمن القديم.
كنت وقتها على وشك اكتشاف الكون! أطنان الهرمونات المقلقة تتدفق فى دمى، وتلهب قلبى بالحب، وتلهم روحى بالأحلام. أشياء كانت تحيرنى: لماذا خلق الله الدنيا بهذا الجمال؟ ولماذا لا يكف قلبى عن الذوبان؟ ولماذا يحب الآباء أبناءهم رغم أنهم يسببون المتاعب؟ ولماذا يصر أبى على تدليلى رغم أننى كبرتُ، وصرتُ فى الثالثة عشرة الآن.
هذا الصيف لحقتُ بأبى الذى كان يعمل فى ليبيا قاضياً هناك. كنا فى منتصف السبعينيات، وكانت طرابلس عذراء مرهفة، فيها بكارة وسذاجة، الطابع الإيطالى مازال غالباً، ولون البحر الأزرق يشهق بالدهشة والجمال.
آه يا أبى الحبيب، ظللتُ طفلاً فى عينيك حتى الموت، وبمجرد أن رأيتنى بعد غياب عام، وكنتُ قد أدركتُ البلوغ لتوّى، فإذا بك تقول فى الصالة، بصوتك الجهورى أمام أمى، وأنا غارق فى خجلى: «إنت بلغت يا أيمون؟».
كده تكسفنى يا بابا؟ بالذمة ده كلام؟
كل هذا استعدته عندما استعدت الأغانى. عادت أمى إلى مصر لترعى إخوتى، وبقيتُ أنا وأبى، أقضى العطلة الصيفية، فى الشقة الواسعة، الخالية تماماً، فى قلب طرابلس. يذهب أبى إلى عمله، ويتركنى وحيداً، أنا والأحلام. أيام خيالية لن تُمحى من ذاكرتى. أستيقظ فى الصباح، واليوم ممتد بطوله، ورحلة الشمس بطيئة، لكنى لا أشعر بالملل، ترافقنى أشباحى، ورؤى تراودنى، وأحلام ابن الثالثة عشرة الذى يحلم بالدهشة واكتشاف الكون.
أستيقظ وقد قررتُ أن أصبح بطلاً رياضياً، فأنثنى إلى غرفة الأدوات الرياضية، التى أعدّها لى أبى، ألعب تمارين الضغط واللياقة، حتى أشعر بالملل، فأقرر أن أعتزل الرياضة وأصبح شاعراً، أمسك بديوان كامل الشناوى «لا تكذبى» فتروّعنى روحه المرهفة وحزنه الكبير، وقصص حبه الفاشلة التى لم تكن متبادلة للأسف الشديد.
وخوفاً من مصير مماثل، أقرر أن أهجر الشعر، وأصبح بطلاً فى كرة القدم، وأسدد الكرة فى الحائط مئات المرات، ومع كل هدف أحرزه فى خيالى أسمع التصفيق الجنونى وحماس الجماهير، ثم أقرر أن أصبح وسيماً، أزرق العينين، أجمل من حسين فهمى الذى غنت له سعاد حسنى لتوّها «يا واد يا تقيل».
ثم أشعر بتفاهة أحلامى، فأتجه إلى المجد، وأقرر الالتحاق بالكلية التى تُخرّج رؤساء الجمهوريات، ثم أزهد لعبة السلطة والقوة فأقرر أن أصبح عالماً، فى معمل هادئ مكيف، يفاجئ البشرية باختراع جديد.
وحين يأتى أبى منهكاً من العمل، ونجلس سوياً لتناول الغداء، يظن أبى المسكين أنه يجلس مع ابنه المراهق فى الإعدادية، ولا يعرف أنه يجلس مع بطل أوليمبى، ولاعب كرة، وشاعر مرهف، وعاشق محبوب، وعالم مرموق، ورئيس جمهورية!
أجل! بكل تأكيد! لم يدرك أبى ــ حتى وفاته ــ أنه يسكن فى بيت واحد مع (مدمن أحلام).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ