الخميس، 5 يناير 2012

د. على جمعة مفتى الجمهورية يكتب: التأصيل الحضارى للتشريع الإسلامى: فَهْمُ الحُجَّة


٥/ ١/ ٢٠١٢

الرحلة الفكرية فى ذهن المجتهد تتكون من عشر مراحل متعاقبة، فتبدأ بسؤاله عن الحجة، وأجمع جمهور العلماء على أنها القرآن والسنة، ثم يسأل عن توثيق هذه الحجة، وقد أنشأ المسلمون علوماً شتى لتوثيق القرآن والسنة والتأكد من نقلهما عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بصورة دقيقة مذهلة لم تحدث من قبل فى أمة من الأمم من لدن آدم حتى عصرنا الحاضر، ثم تأتى المرحلة الثالثة وهى كيفية فهم هذه الحجة، فيسأل المجتهد نفسه كيف نفهم ما قد ورد إلينا موثقا، بالطريقة التى تطمئن إليها قلوبنا؟
ومفتاح الإجابة عن هذا السؤال هو اللغة العربية، فمن خلال فهم هذه اللغة يمكننا أن نقرأ كتاب الله تعالى قراءة صحيحة، فهى مفتاح الكنز، وهى الأداة التى نبلغ بها فهم المراد، فهو قرآن عربى مبين، والقدح فى أداته- اللغة العربية- هو قدح لا يخرج عن كونه قدحاً فى القرآن، فبها أُنزل وبها يُقرأ.
ولقد كانت الأمة أمة أمية يحفظون ما يسمعون، ويضبطون، ولا يكتبون، فقرأوا، وكتبوا وأشهدوا بتوفيق الله. فالوحى (القرآن) نزل بلسان عربى مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
والذى بيننا وبينهم الوحى الذى أنزله الله من السماء على قلب رسوله المصطفى ونبيه المجتبى، صلى الله عليه وسلم، (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) «غافر: ١٥».. والذى بيننا وبينهم هذا الكتاب الذى آمنا به وجعلوه وراءهم ظهريا، والذى بيننا وبينهم ما يوصل إلى فَهم هذا الوحى الشريف، وإلى الامتثال بأوامره ونواهيه، وإلى طلب الهداية منه.
يقـول ربنا سبحانه وتعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ) «يوسف: ١-٣»، والقدح فى اللغة العربية الذى نراه فى الكتُب الرخيصة، وفى بعض المجلات السيارة وفى المؤتمرات المشبوهة وفى الاجتماعات الخائبة، هو فى واقعه قدح فى الأداة التى نفهم بها القرآن، الذى هو تصديق لما بين يديـه من الكتب السابقة، والذى سوف يكون تفصيل كل شىء يهم الإنسان فى حياته وسعيه إلى الله، فى حياته ومماته وحقيقة الكون.
ويتساءل أقوام لِمَ اختار الله العربية؟!! فلا يعلم هؤلاء مدى عظمة اللغة العربية، وأنها لغة فيها من المميزات ما لا يوجد فى لغةٍ سواها، لا تستطيع لغة أن تبقى على هذه المرونة والسعة إلى يوم الدين، بدلالات ألفاظها وبمواطن الكلمات فى الجملة المفيدة، سوى العربية، ونكتشف هذا عندما نريد أن ننقل معانى القرآن الكريم إلى لغةٍ أخرى من لغات البشر. فترجمت تلك المعانى إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة، كل هذه الترجمات عبر العصور من المؤمنين ومن غيرهم لم توفِّ القرآن حقه، ولم تنقل إلا وجهة نظر الكاتب والمترجم، لسعة العربية، ودقة معناها، وجمال جرسها، ولمردود الكلمة العربية على ذهن السامع الذى يعرف اللغة وهو مردود آخر غير كل لغات العالم، فما ظنك والقرآن كلام الله رب العالمين.
ومن عجائب القرآن أن حفظه العربى والأعجمى حتى الذى لا يعرف العربية، وحفظه الكبير والصغير، وليس هناك كتاب على مر التاريخ وإلى الآن كهذا الكتاب، ومن عجائبه أيضا أن أحدا لم يحفظ ترجمة معانيه إلى أى لغة كانت، فلم نر من يحفظه بالإنجليزية أو اليابانية، فهل بعد ذلك من إعجاز عجيب.
قرآنٌ مجيد ولفظه عربى مبين.. وفيه سر عجيب يهدى إلى الرشد.. لا يزال غضا طريّا كأنما أنزل الآن.. إنه الوحى.. إنه كلام الله رب العالمين.. (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) «فصلت: ٤٤». إنه الحجة! والعربية مفتاحُ فهم هذه الحجة.
لمـا نـزل قولـه جـل فى عـلاه: (حم * تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ) «غافر: ١-٣»، سمعه الوليد- ابن المغيرة- يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإن له لحَلاوة، وإن عليه لطَلاوة، وإن أعلاه لمُثمِر، وإن أسفله لمغِدق، وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صَبَا الوليدُ لتَصبُوَنّ قريش كلها..!
ولهذا السر وذلك الإعجاز المحفوف بالجمال والجلال والكمال وجب علينا أن نُعَلِّم أنفسنا وأولادنا العربية، إذ هى الملاذ لفهم كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وليس بخافٍ على كل متأمل واعٍ أن كثيراً من اللغط فى عصرنا الحاضر إنما نتج بسبب بعدنا عن هذه اللغة وإهمالنا لها، ولنتمعن فى قول شاعر النيل حافظ إبراهيم فى قصيدته الرائعة عن اللغة العربية حكاية على لسانها:
وَسِعْتُ كِتَابَ الله لَفْظَاً وغَـايَةً ** وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بهِ وَعِـظِاتِ
أنا البحرُ فى أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ ** فَهَلْ سَاءلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَـاتى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ