الأحد، 1 يناير 2012

دولة المرشد


  بقلم   د. عمار على حسن    ١/ ١/ ٢٠١٢
حين بدأت المؤشرات الأولى لصناديق انتخابات مجلس الشعب المصرى تشى بفوز ظاهر لـ«الإخوان المسلمين» استعادت ذاكرتى كل ما قرأته فى السنوات التى خلت عن توقعات باحثين وخبراء وكتاب وساسة فى العالم العربى من موريتانيا إلى العراق من أن البديل المطروح لأنظمة الحكم الفاسدة المستبدة هو الجماعات والتجمعات والتنظيمات السياسية التى تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها. وعدت إلى كتابى «أمة فى أزمة» لأقرأ مقالاً مطولا ضمن مادته كان عنوانه «الإسلاميون العرب.. مشروع بديل أم كارثة جديدة» وكذلك إلى كتابى «الفريضة الواجبة.. الإصلاح السياسى فى محراب الأزهر والإخوان المسلمين» الذى كان يحوى توقعاً بأن الإخوان هم البديل المطروح لنظام مبارك، وقلت وقتها «نكافح ضد الحزب الوطنى ليصلح من نفسه أو يرحل ونلح فى الضغط على الإخوان ونصحهم حتى يرشدوا أفكارهم»، واستعدت كذلك مقالى الذى سبق أن نشرته فى «المصرى اليوم» عام ٢٠٠٧ وكان عنوانه «هل يعمل مبارك لصالح الإخوان؟». وتخيل ملامح ما يمكن أن نسميها جوازاً «دولة المرشد» لابد أن يمر عبر عشر ملاحظات أساسية على النحو التالى:
١- رغم أن المسار الذى اندفعنا إليه كان محفوفا بالمخاطر ولايزال، ولن يكف عن إفراز المشاكل فى الفترة المقبلة، فإنه يجب احترام نتائج الانتخابات إيمانا بأن الشعب الذى يمتلك حق وحرية الاختيار، يمتلك أيضا القدرة على تنقيح اختياره وتصحيح مساره. لكن يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن الديمقراطية قيم وإجراءات، وصندوق الانتخابات مجرد إجراء فيها، وإجراؤها الأصلى هو ضمان تكافؤ الفرص بين المتنافسين، ومادتها الأساسية هى تمكين الشعب من القرار، واحترام الحريات الفردية وضمان التداول السلمى للسلطة، وإعلاء مبدأ المواطنة. ويجب أن نفهم ونعى هذا ونبنى عليه فى المرات المقبلة.
٢- إن ما يجرى حاليا على الساحة السياسية المصرية هو تلاقى أفكار وأدوار بشكل طوعى ودون عنت. فالإسلاميون يفوزون وفق المشروع السياسى المدنى، والمدنيون ينهزمون لتراجع قدرتهم إلى إنتاج خطاب يكون الدين جزءاَ أصيلاً فيه، وعدم تمكينهم من بناء شبكة اجتماعية يمكن توظيفها فى تعبئة الناس للتصويت فى العملية الانتخابية. وهذا يجعل من الممكن أن نقول «ينهزم المدنيون وتنتصر المدنية» و«ينتصر الإسلاميون ويتوارى مشروعهم السياسى الأصلى أو يتجدد». لا بأس، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها.
٣- هناك فروق جوهرية بين ما يبديه الساسة من آراء وتصورات وتصريحات خلال الحملة الانتخابية وبين الذين سيجدون أنفسهم ملتزمين به ومرغمين عليه حين يجلسون فى سدة السلطة. وإذا كان حزب «الحرية والعدالة» يوظف الدين فى جذب الناخبين فإنه بعد اكتمال البرلمان ودخوله طرفاً أصيلاً فى تحديد المواقع والمناصب والمسارات السياسية المقبلة سيضع عينيه على جمهور آخر وسيتصرف بمسؤولية قدر استطاعته بعيدا عن «الشعارات» و«الهتافات» فهناك الخارج أو المحيط الدولى، وهناك التيار المدنى، وهناك الأقباط، وهناك العسكر، وهناك من يقيمون التجربة ويفككونها، وقبل كل هذا هناك المشكلات المتفاقمة التى خلفها الرئيس المخلوع، والتى سترسم مستقبلا لشرعية جديدة تقوم على «الإنجاز».
٤- لا نحتاج إلى كثير عناء كى نكتشف أن الحركة الإسلامية المسيسة لها وجهان، الأول نراه حين تكون فى مرحلة «الصبر» حيث الملاحقة والمطاردة والتمييز والاضطهاد والإقصاء والإبعاد، والثانى نعاينه حين تصل إلى «التمكن» وهذا ما بانت بوادره منذ ظهور مؤشرات تفوق «الحرية والعدالة» و«النور» فى الانتخابات، وقد يتعزز خلال الشهور المقبلة، لنجرب «المسكوت عنه» و«المنتظر» و«المتوقع» والذى سيكون له نصيب بارز فى إعادة تقييم القاعدة الشعبية العريضة لأدوار وأوزان الإسلاميين، واختبار المساحات الفاصلة بين «القول» و«الفعل» وبين «التنظير» و«التطبيق».
٥- ليس الإسلاميون كتلة واحدة، ومن التبسيط المخل والخطأ الفادح أن ننظر إليهم على أنهم كيان متجانس على عقل وقلب وضمير رجل واحد. فهناك تباينات جلية بين «الإخوان» و«السلفيين» و«الوسط» إن أخفتها مؤقتا المصالح الطارئة والعابرة فإنها لا محالة ستظهر وستؤثر على نظرة كل منهم إلى الآخر وتحديد حساباته حياله. فى الوقت نفسه ليس الإخوان فريقاً واحداً، فهناك جزء طاف على السطح نراه ونتعامل ونتحاور معه وينصت إليه الناس ويشاهدونه فى مختلف وسائل الإعلام، يبدو أكثر تفهما لـ«الآخر» وأعلى قبولا للأفكار السياسية الحديثة. وهناك جزء غاطس يتسم بـ«المحافظة» ويبدو فى بعض تصوراته أقرب إلى «السلفية التقليدية». وهناك قطاع من شباب الإخوان يبدو أكثر نزوعاً إلى التحديث والتثوير. وهذه التباينات إن كانت قد توارت فى الظل طيلة العقود الماضية خوفاً على تماسك التنظيم فلن يكون لها مبرر وقت أن يكون فى الصدارة متحللا أو متخففا من كل عوامل الخوف والقهر وشاعرا إلى أقصى حد بالحماية والاستقواء.
٦- هناك من يعتقدون أن صدام «الإخوان» بـ«العسكر» أمر حتمى. لكن من يمعن النظر فى تأثير «ثقافة المحنة» على سلوكيات الإخوان فى السابق والحاضر قد يصل إلى نتيجة مختلفة مفادها أن هذين الطرفين، وفى محاولة منهما لتخفيف آثار صراع الشرعيات، سيذهبان إلى «تسوية» ستؤثر تأثيرا عميقا على سير الأوضاع السياسية فى البلاد خلال المستقبل المنظور.
٧- حين نطلق اصطلاح «دولة المرشد» جوازا، فإننا لا نتجاوز حقيقة ساطعة كشمس الظهيرة تقول إن شخصية المرشد داخل الإخوان محورية نظراً لصلاحياته وموقعه التاريخى والتربوى والدينى، ومن ثم من المتوقع أن تظل بصمة المرشد على طريقة إدارة الإخوان للحكم إن بلغوه قوية.
٨- لا يعنى نقد الإخوان، فكرا ومسلكا، قدحا فيهم، أو رغبة من أحد فى إعادتهم إلى ما كانوا عليه، أو نصرة فريق ينافسهم، لكن بات واجبا لفريق اقترب من حكم البلاد، أو يرى نفسه الأحق الآن بهذا. ولا يرام من ذلك النقد أو هذا التدافع سوى تجويد الأداء وترشيد الآراء وتعبيد الطريق أمام غد أفضل لبلادنا، بغض النظر عن خلفية أو أيديولوجية من يحكم أو يتحكم.
٩- لا يملك الإخوان، حتى هذه اللحظة، نظرية سياسية متكاملة، ولم ينفتحوا بالقدر الكافى على التجديد النظرى الذى أنتجته قريحة الكثير من الباحثين المهتمين بتطوير رؤية سياسية عصرية للفقه والفهم والفكر الإسلامى. ولعل غياب المرجعية المتماسكة والنسق المتكامل هو الذى يجعل كثيرا من تصريحات مسؤولين بالجماعة تبدو متضاربة بين شخص وآخر، أو لدى الشخص الواحد فى مكانين أو زمانين أو موقفين متتابعين.
١٠- إن الإسلاميين وإن كانوا قد حازوا ٧٠% من المقاعد فإنهم حصلوا على أصوات ١٠ ملايين من بين ٢٥ مليوناً صوتوا فى المرحلتين السابقتين، وهذا معناه أنهم استفادوا من تشرذم وتصارع القوى الأخرى التى تنافسهم، وليس من قبيل أن أغلب الشعب معهم. وهذه مسألة يجب أن تؤخذ فى الحسبان أثناء صناعة السياسات العامة.
فى ضوء هذه الملاحظات يأتى السؤال: ما الصيغة المتخيلة لـ«دولة المرشد»؟ ما شكلها؟ وما مضمونها؟
للوهلة الأولى يمكن القول: هناك مكتسبات حازها المصريون عبر كفاحهم الطويل لبناء دولة حديثة ولن يكون بوسع أحد أيا كان أن يهدمها أو يهيل التراب على منجزها. وهناك خصوصية ثقافية لمصر يجسدها موروثها الشعبى وطبقاتها الحضارية المتتابعة وخبرتها الإنسانية وجيناتها الاجتماعية ودورها التاريخى، ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتجاهلها وإن حاربها سيخسر حتماً لأنها انتصرت على أفكار كل الغزاة والمتنطعين والشاربين من مناهل غير تلك التى صنعت فى مهل وروية على ضفتى النيل العظيم. وأعتقد أن الإخوان يتفهمون هذا الأمر إلى حد كبير، ولذا سيغلب الراسى منهم الجامح، ولن يدخلوا فى صدام مباشر مع هذه البنى الفكرية والطقوس الاجتماعية، وقد يجدون أنفسهم فى مواجهة مع «السلفيين» الذين يطرحون، فى الغالب الأعم، مشروعا يتعامل مع مصر وكأنها ولدت يوم ٢٨ نوفمبر الذى شهد انطلاق انتخابات جعلت لهم تمثيلا سياسيا ملموسا.
ما دون ذلك سيسعى الإخوان، على الأرجح، إلى الانطلاق من الهيمنة على نظام الحكم إلى الهيمنة على الدولة نفسها، وصبغها بمصالح وتوجهات وارتباطات الجماعة. من هذا المنطلق سيبذل الإخوان جهدا فائقا لتعزيز تواجدهم فى جميع المؤسسات البيروقراطية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية والدينية، وكذلك فى أى فراغ يظهر بالمجال العام. وسنوات القهر لاتزال آثارها ساكنة تحت جلود الإخوان أو فى أنفسهم وهى قد أورثتهم شكا فى الجميع، ومن ثم سيزيحون كل من لا يستريحون له من طريقهم تباعا، وقد يضطروه أحيانا إلى إظهار التعاون مع الآخرين تحالفا أو ائتلافا، لكن هذا سيظل تحت السيطرة بقدر المستطاع، ووفق القاعدة التى قد ترى أن تمكين الجماعة مقدم على ما عداه، أيا كانت ضرورته أو حيويته فى نظر الآخرين.
وإذا كان الإخوان قد رفعوا أثناء الانتخابات شعار «نحمل الخير لمصر» مستولدينه من شعارهم السابق: «نحمل الخير لكل الناس» ليحاولوا أن ينتقلوا، ولو ظاهريا، من «الأممية» إلى «القطرية» فإن ترجمة هذا الشعار فى الواقع هى الأهم. والمحك الرئيسى لهذا هو «الاقتصاد» أو بالأحرى «التنمية»، فالشعب المصرى إن كان قد صوت لصالح من يعتقد أن بوسعهم أن يحفظوا المال العام بعد طول نهب، وينهضوا بالوضع القائم بعد طول ترد، لم ينحز بالكلية إلى «أيديولوجية» بقدر ما عول على «التيار الإسلامى» فى إنجاز ما عجزت أنظمة الحكم السابقة عن تحقيقه، لاسيما فى مجال التعليم والبحث العلمى والصحة والأجور والمرتبات والمعاشات والتوظيف والإسكان ومكافحة الأمية والفقر وتحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء والكساء والدواء. وعلى هذا سيحاسب الشعب «الحرية والعدالة» أو «النور» خلال الفترة المقبلة. فالمشكلات التى خلفها نظام مبارك غاية فى التعقيد والتعدد والتوالد، ولا يكفى الاكتفاء بخطاب دينى أو وعظ يدغدغ المشاعر وسيلة للتعامل معها، ولن يرضى الناس بهذا أبدا.
وحتى هذه اللحظة لا نجد برنامجا متكاملا من أى من التيارات المتنافسة على الساحة السياسية للتعامل مع هذه المشكلات العويصة. والدليل على أن الإخوان يفتقدون هذا الشرط أنهم وبعد أكثر من ثمانين عاما انتظروا فيها حكم مصر، يذهبون إلى الاستعانة بخبراء أجانب فى بناء «مشروع نهضة»، ولا يبدو المشروعان الأوليان والصغيران اللذان أنجزهما الإخوان عقب الثورة مطمئنين إلى أنهم سيسلكون طريقا فارقا يكافئ أحلام الناس وأمانيهم، فالجريدة التى أصدرتها الجماعة وكذلك القناة الفضائية التى أطلقتها تفتقدان القدرة على المنافسة وتعوزهما مهنية، كان يمكن توفرهما لو فتح القائمون عليهما الباب لكوادر مدربة وكفؤة من خارج الإخوان للعمل فيهما. وهذا المثل، رغم ضآلته ومحدوديته، فإنه قد يبدو فى نظر كثيرين كاشفا أن الجماعة لا تحبذ الاستعانة فى التنفيذ بغير كوادرها، رغم أنها فى الانتخابات تحالفت مع مختلفين معها فى المسار والرؤى، ورغم أن قادتها يؤكدون ليل نهار أنهم يبحثون عن «توافق».
وقد لا يطمئن أيضا سلوك الإخوان حيال الخارجين على الجماعة، حيث الإقصاء والإبعاد أو التهميش والقتل المعنوى المنظم وعدم الاعتراف والتشويه، فى أنها قادرة على استيعاب جدى وغير تحايلى أو مؤقت لرؤى وأفكار وتصورات ومسارات مغايرة لتلك التى تتبناها. وهذا يخلق شكوكا عميقة حول مدى التزام «الحرية والعدالة» بالمكتسبات التى حققتها الجماعة الوطنية فى مجال الحريات الثلاث (التفكير والتعبير والتدبير). وإذا كان الإخوان قد قطعوا شوطا، لا بأس به، على طريق الانفتاح على الحريات العامة والفردية، قياسا إلى ما عليه الجماعات السلفية، فإن ما هو مطلوب منهم وهم فى السلطة أكبر وأعمق بكثير.
إن الإخوان مخيرون بين تقديم تجربة جذابة يشهد لها العالم أجمع كالنموذجين الماليزى والتركى وبين الوقوع فى فخ التجارب الفاشلة للإسلاميين مثل ما جرى فى السودان وباكستان وغيرهما. وقبل كل هذا عليهم أن يمعنوا النظر فى الآية الكريمة التى يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ». وعليهم أيضاً أن يعتقدوا، ولو على سبيل الافتراض، أن ما هم فيه قد يكون محنة فى ثوب منحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ