الأحد، 1 يناير 2012

دولة الثائر


  بقلم   محمود عزت    ١/ ١/ ٢٠١٢

قبل أن ينزل من سيارته، رنّ المحمول..
«لا يا باشا الحمد لله، زى ما إنت عارف.. جلسات محاكمة صورى كده عشان الشعب يرتاح، لا حيصدر أحكام ولا الهوا.. أنا والاتنين ظباط اللى معايا وكمان الأمين، براءة يا باشا، مش معقول يعنى يحاكمونا عشان قتلنا كام عيل سوابق قدام القسم.. الميرى ميرى برضه».
نزل وأغلق الباب بيد، بينما يسند الموبايل بيده الأخرى.. «لا يا باشا متقلقش..إحنا لسه راكبين البلد.. بس الموضوع محتاج شوية وقـ....»
تراخت يده واتسعت عيناه، ثم بدأ يقترب بخطوات بطيئة تجاه البيت، كان على جدار البناية التى يسكن فيها، وعلى شرفة شقته بالدور الثانى كذلك، عبارة واحدة ضخمة مكتوبة بالأحمر الدموىّ، تسيل أطرافها كنزيف طازج: «هنا.. يسكن قاتل شهيد».
مال على جدار البناية كأنه يتأكد، نقش دائرى صغير كان بجوار العبارة، دقق جيداً، لم يتمكن من قراءته. وصله صراخ محدثه فى المحمول، انتبه ورفعه إلى أذنه مرة أخرى مردداً: «كارثة يا علاء باشا.. كارثة».
٢
فرك كفيه من البرد، لاعناً اليوم الذى اختاروه فيه فى الكتيبة قائداً لسيارة مدير البوليس الحربى، استيقاظ يومى قبل الفجر، غسيل دقيق للسيارة الداكنة الفاخرة، أقل خطأ بجزاء، تنهّد فاركاً كفيه: «أيام وتعدى.. سنة ونص يا جيش وارجع للملكى».
رنّ له اللواء على الموبايل، فانتفض وهرع يقابله على بوابة البناية الفاخرة، أدى التحية العسكرية للواء بانضباط، ثم مد يده ليتناول الحقيبة، لكن ذراع اللواء ظلت جامدة جواره، انتظر برهة محدّقا فى يد اللواء، ثم رفع عينيه، كان اللواء يحدق وراءه بوجه جامد، وعينين جحيميتى الغضب، فالتفت فى تردد، كان على السيارة السوداء الفارهة، على البابين الأمامى والخلفى، ملصقات متتابعة للصورة الشهيرة: الفتاة وحولها جنود الجيش، بينما يرفع أحدهم قدمه ليركلها فى صدرها العارى، وإلى جوارها مكتوب بخط بارز: كاذبون.
صرخ: والله يا فندم ما أعرف الحاجات دى اتحطت هنا إزاى، أطاح اللواء بالحقيبة فى وجهه، اندفع ونزع ملصقاً محدقاً فيه، كان إلى جوار الكلمة، نقش دائرى صغير يشبه الختم، مكتوب داخله بخط الثلث: «دولة الثوار».
٣
وهنا يصدر البيان الأول على الشبكة العنكبوتية.
٤
«مبروك، رسمياً.. حد أقصى للأجور، وحد أدنى للأجور يبدأ من ٢٠٠٠ جنيه.. شكراً للشهداء». قرأ المكتوب على الورقة التى فى يديه على زملائه فى المصلحة، ثم هتف: الورقة دى متعلقة فى كل حتة.. فى المترو وع الحيطان.. كل الناس بتقراها، محدش مصدّق.. بس أنا مصدّق.. أكيد ده قرار جديد.. أخيراً. تناولها منه زميله: أنا كمان شفتها النهارده فى كل حتة.. كل الناس شافتها.
- غريبة.. ليه مايعلنوش عنها فى التليفزيون ولا فى بيان رسمى.
■ استنى.. إيه المكتوب تحت ده، دققا معاً فى الورقة، كان أسفل يمين البيان، نقش دائرى مكتوب داخله بخط الثلث: دولة الثوار.
■ إنت متأكد إن ده ممكن يكون بيان رسمى؟
- بيتهيألى.
انتبه إليهما مديرهما، تأمّل الورقة، ثم قلّب عينيه فيهما بنظرة محبطة:
المجلس كذّب فى الراديو من شوية إنه أصدر أى قرارات جديدة.
٥
تردد الضابط قليلاً، لكنه طلب إذن مقابلة السيد اللواء القائد، دقائق وأشار له سكرتارية اللواء بالدخول، فى الداخل كان اللواء مشغولاً، سأله دون أن يرفع عينيه عن الأوراق أمامه: خير يا سيادة العقيد، تنحنح العقيد ثم مد يده باللابتوب الذى يحمله ليضعه على المكتب: حضرتك ده حصل النهارده الصبح.
تناول اللواء نظارته الطبية، ارتداها فى بطء، ثم قرّب عينيه، كان التحديث الأخير على الصفحة الرسمية للمجلس:
«أحكام مشددة تنتظر رأس النظام السابق (مبارك) وأعوانه، الإعدام والمؤبد بتهمة الخيانة العظمى لكل من خان أمانة الوطن».
نظر اللواء القائد إلى العقيد صارخاً: إيه ده.. إيه المكتوب ده؟!
■ يا فندم الصفحة تم اختراقها.. وكان لازم أعلم سيادتك.
مال اللواء القائد مجدداً حين لمح صورته، كان التحديث قبل الأخير عبارة عن صورة له، ملوّحا للجماهير فى المؤتمر الأخير، وتحتها تصريح على لسانه: الدولة دى مش بتاعة حد.. دى دولة الثوّار.
مع نقش دائرى صغير أسفل يمين الصورة.
صرخ اللواء القائد: العيال دى لازم تتجاب.
٦
بسرعة خاطفة، لصق أحدهما الورقة على الجدار، أخرج الآخر الإسبراى وبدأ فى الرشّ حامياً بساعده أنفه وفمه، التفتا إلى وقع أقدام ثقيلة تقترب، خلعا الورقة سريعاً من على الجدار، وانطلقا، تطاردهما جنود الشرطة العسكرية، بينما تتتابع على اليمين واليسار العبارة نفسها على الجدران بطول الشارع: الدولة دى دولة الثوار.
٧
على الصفحة الأولى للجريدة الرسمية:
تشديد الحراسة على الضباط المتهمين فى قضية قتل المتظاهرين.
اعتقالات لعدد من النشطاء يشتبه فى تورطهم فى تنظيم سرىّ يهدف إلى حرق البلاد فى عيد الثورة الأول.
السلطات تداهم عدة مراكز حقوقية بتهمة تمويل ودعم تنظيمات سرية تدعو إلى الفوضى.
المخرّبون يستخدمون شعارات غريبة على ثقافتنا.
٨
استيقظ اللواء القائد على جلبة ضخمة، نهض وفتح نافذته، كانت تمر من أمام منزله مسيرة ضخمة، الملايين تسير رافعة يديها، منقوشاً على راحاتهم جميعاً نقش دائرى كالختم، مكتوب بخط الثلث:
تذكّر اللواء بغتة تاريخ اليوم: ٢٥ يناير ٢٠١٢

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ