الخميس، 12 يناير 2012

لحظة رضا

يخضع المقال الذى تقرأونه كل صباح لدورات المزاج. إذ يحدث أن أكون قد أعددتُ مقالاً حزيناً فى المساء، ثم أستيقظ مبتهجاً بلا أى سبب، متفائلاً، مقبلاً على الحياة. ما الذى رأيته وأنا نائم فأصابنى بكل هذه السعادة؟ هل شاهدتُ أمى؟ أبى؟ لعبى القديمة؟ كرتى البلاستيكية الحمراء؟ صديقاً من أصدقاء الطفولة؟ بيتاً من الشعر كتبته ونسيته؟ أول مذاق للشيكولاته فى فمى؟ أول قبلة من ثغر أمى؟ أول رشفة لبن؟ أول مرة لاحظتُ فيها أن السماء قريبة والعصافير تزقزق والقمر منير؟ حقيقة لا أدرى، ولكنى استيقظتُ شاعراً بنفسى خفيفاً، أكاد أطير.
أحتسى عبير القهوة بعمق وأنا أرتدى ملابسى. ثم أخرج إلى الشارع فينتعش قلبى بقدوم الشتاء. أسير فى الطرقات مُعرضاً عن الأرض، عن أكوام القمامة، عن القبح السائد، ناظراً بإصرار من خلال العمائر الشاهقة إلى السماء. آه يا خالقى الحبيب كم تذهلنى روعة الحياة! تفتننى تشكيلات السحب فى الصباح الباكر، والفضة المبثوثة فى مهرجان الضوء، وتدرج الظلال والألوان التى تتغير كل لحظة. هذا الجمال الصامت العميق، الصادق الحقيقى، غير المزيف، أهو رسالة لنا أننا نضيع رحلة حياتنا هباء، فى الهراء.
أسير فى الطرقات! أقترب وأمعن فى الاقتراب. السماء مغسولة بالضوء، وكأنها تمسح متاعب اليوم السابق، بكل ما ساده من صراع وغبار، والهواء البارد يلثم وجهى، الهواء الذى خُلق لإسعادى! وكأنه فى مكان بعيد جداً، توجد مصانع عملاقة لإنتاج الهواء البارد، من أجلى خصيصاً، ومن أجل كل عشاق الشتاء.
وأفكر فى الفاتورة الباهظة التى لم أدفعها لحسن الحظ! إذا كان جهاز تكييف واحد كفيلاً بخراب بيتك، حين ترى فاتورة الكهرباء. كل شىء مجانى فى هذا العالم. أقصد كل شىء ثمين، صادق لا يمكن أن يُشترى بالمال! هل تستطيع أن تشترى الشمس؟ القمر؟ النجوم؟ الكواكب؟ البحر؟ النهر؟ الحب؟ الصداقة؟ الونس؟ سهولة النوم؟ رضا الضمير؟ الانتعاش؟ البهجة؟ البساطة؟ الدعاء بظهر الغيب؟ التواضع؟ قبول الناس؟
شرعت أسير فى الطريق، وباطنى يلهج بحمد الله. شكراً يا إلهى على نعمة الحياة. لأنك خلقتنى، وملأت قلبى بتوحيدك، وتتبع آثار رحمتك. شكراً لأنك - رغم جحودى - متعتنى كثيراً فى رحلة الحياة. وأنا صغير، لا أملك حيلة ولا أستطيع سبيلاً، سخرت لى من يرعانى بإخلاص. وملأت قلب والدىّ حباً وحناناً وشفقة واهتماماً. وحين رزقتنى الشهية رزقتنى الطعام، وجعلت الكون متنوعاً فى إسعادى، كان يمكن أن يكون الأكل أرزاً وخضاراً فقط، وتستمر الحياة.
حينما وصلتُ إلى عملى، كنتُ مفعماً بالرضا. وقررتُ تأجيل المقال الذى أعددته مسبقاً، وكتابة مقال جديد. مقال يناسب لحظتى الجديدة. وهكذا كتبتُ ما تقرأون الآن.
الحياة جميلة جداً فلماذا المكابرة؟ إنها صنعة الخالق الذى أتقن كل شىء، تنادينا الحياة:
«أيها البشر الفانون، أيتها المخلوقات الضعيفة، يا من أنفقتم أعماركم فى الركض وراء كل زائل، وشوهتم وداعة نفوسكم بالحسد والضغينة، يا من لا تنظرون إلى أطباقكم المليئة، وتنظرون فى أطباق الآخرين. يا من لا تحمدون الله أبداً. الملائكة احتارت فيكم. لا تدرى ما تصنع معكم؟ لماذا أنتم- دون الكائنات جميعاً - متعبون بهذه الطريقة؟ القطط تسير فى الحدائق، تتمطى فى الشمس، تهز ذيلها فى رضا! العصافير تطير فى السماء، لا تحمل هم الغد، ولا تحسد العصافير الأخرى، تنفق عمرها فى الغناء والتقاط الحب. وإذا استخفها الطرب طارت فى مواكب العشاق، وإذا عجزت عن إدراك السحب، رضيت بالمتاح.
الخلائق كلها سعيدة، ملتحمة بالطبيعة، بيتها الأرض وسقفها السماء. أمن الصعب عليكم، يا جاحدى النعمة، أن تقولوا مرةً من قلوبكم: الحمد لله؟».
الحمد لله. الحمد لله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ