الخميس، 12 يناير 2012

د.على جمعة يكتب: التأصيل الحضارى للتشريع الإسلامى: قراءة الحجة بين النسبى والمطلق ١٢/ ١/ ٢٠١٢


إن القرآن الكريم قد نزل بلغة العرب، ومادام هو نص يتعلق فهمه بإدراك اللغة، فدائما يكون له معنى أصلى، ويكون له معنى تابع، أما المعنى الأصلى فهو ذلك المعنى الذى يمكن أن يترجم من لغة إلى لغة أخرى، والذى يستفاد من دلالة الألفاظ فى صورتها المعجمية، ومن تراكيب السياق، وما يتبادر منها إلى ذهن أهل تلك اللغة، مع مراعاة التطور الدلالى للألفاظ.
والمعنى الأصلى تعدده محصور، أما المعنى التابع فهو أكثر تعددًا وأكثر احتياجًا إلى الضوابط التى لا تجعله يميل إلى الرمزية، أو يوغل فى الإغراب، ومن شروطه المهمة ألا يكر على المعنى الأصلى بالبطلان، بل يضيف إليه معنى جديدًا ينضم إليه ولا يلغيه، وقد يكون هذا هو الفارق المهم بين التصوف السنى، الذى فهم معانى كثيرة من النصوص الشرعية، خاصة القرآن الكريم، ضمها إلى المعنى الأصلى الذى تمسك به، وبين الباطنية التى جعلت ذلك المعنى التابع قاضيا على المعنى الأصلى، بحيث صار هو الأصل، والمعنى الأصلى هو الحجاب للفهم، ولقد ألف الإمام الغزالى كتابه (فضائح الباطنية) من أجل الكشف عن هذا المعنى، والرد عليهم، وبيان فساد مذهبهم، لأن مزية القرآن أنه جاء خطابا للعالمين، فلا يمكن قبول نظرية التفسير الرمزى أو الباطنى الذى يجعله مفهومًا عند بعض الناس، وغير مفهوم عند أكثرهم.
إلا أن اللغة قد اشتملت على ما سماه علماؤها فيما بعد «الحقيقة والمجاز»، أما الحقيقة فهو أن نستعمل اللفظ فى معناه الذى وضعه واضع اللغة ابتداء، وواضع اللغة عند جماهير علماء المسلمين هو الله سبحانه وتعالى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) [البقرة:٣١]، والأسماء هنا هى ألفاظ وضعت بإزاء معان أو ذوات وأعيان معينة، وهذا هو حقيقة الوضع اللغوى، هو جعل اللفظ بإزاء المعنى، أما المجاز فهو استعمال ذلك اللفظ فى معنى لم يوضع له، وتدل على ذلك المعنى قرينة، ولابد من وجود علاقة بين اللفظ وهذا المعنى.
ولقد عد علماء اللغة والبيان والشريعة هذه العلاقات التى يمكن أن تكون بين اللفظ ومعانيه الأخرى سوى معناه الحقيقى، فوجدوها أكثر من خمس وعشرين علاقة، منها: دلالة اللفظ على جزء معناه، أو دلالته على معنى أعم، أو دلالته على المحل أو على الحال، أو باعتبار ما سيكون، أو باعتبار ما كان، إلى آخر هذه العلاقات التى اهتم بها علماء البلاغة، واهتم بها أيضا علماء أصول الفقه، من أجل فهم صحيح، مؤسس على منهج علمى رصين للنص الشرعى، سواء أكان كتابًا أم سنة.
ولضبط التعامل مع المجاز فى فهم كلام الله سبحانه وتعالى، أطلق علماء الإسلام قاعدة مهمة وهى (أن المجاز خلاف الأصل)، فالأصل فى الكلام هو الحقيقة، ومعنى هذا أن أغلب الكلام إنما يكون على الحقيقة، وأن السامع يحمل الكلام المسموع ابتداء على الحقيقة، فالحقيقة هى التى تتبادر بالذهن أولا، ووضع علماء الأصول، فى هذا المقام، قاعدة جليلة تشتمل على وظيفة اللغة من ناحية، وعلى ما مَنَّ الله علينا به من فائدة الكلام، وقالوا: الاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع قبلهما.
ففى هذه العبارة المختصرة قرار بثبات اللغة، التى كتبت بها النصوص، وفيها أيضا إقرار الحرية للمتكلم فى استعمال كلامه، لما يريد أن يعبر عنه، وأن ينقله للآخرين، وفيها أيضا إشارة إلى وظيفة التلقى التى يقوم بها السامع، والتى يتاح له فيها أن يحمل الكلام على ما يمكن أن يحتمله، وشرح هذه العبارة له تعلق قوى بقضية النسبى والمطلق، وله تعلق كذلك بصلاح القرآن لكل زمان ومكان، وبالاحتياج القوى لأدوات منهجية فى تفسير القرآن لا تؤدى إلى إنكار نسبية الواقع، والإغراق فى الإطلاق، ولا تؤدى كذلك إلى انفراط التفسير بحيث لا يبقى للدين هوية، ويقول فيه كل من شاء ما شاء، لأن هذا ضد أصل المعتقد، وأصل الواقع، من لزوم بقاء المطلق والنسبى أثناء إدراكنا للنص وإدراكنا للواقع، والوصل بينهما.
ولقد قررنا، فى مرات كثيرة، أن هناك معنى صالحاً فى إطلاقهم كتاب الله المسطور على القرآن، وكتاب الله المنظور على الكون، وأشرنا إلى التطابق بينهما، وهو يعنى أنهما قد صدرا من الله، القرآن صدر من عالم الأمر، والكون صدر من عالم الخلق، والله سبحانه وتعالى يقول فى كتابه: (أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [الأعراف:٥٤]
وفى السياق نفسه تأتى قضية: «القراءتان»، وهو أن هناك قراءة للقرآن، وقراءة للأكوان، تشير إليهما آيات صورة العلق، وهى أول ما نزل، حيث كرر الله فيها الأمر بالقراءة، وعلق الأولى على الخلق والثانية على الوحى.
فقال تعالى: (اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [ العلق: ١ - ٤]، والقلم إشارة إلى الوحى، كقوله سبحانه: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [ القلم:١] ونرى هنا أنه بدأ بالخلق وثَنَّى بالوحى، وكأن الإنسان لابد عليه أن يطالع العالم وما حوله ليكون قادرًا على فهم الوحى، وكذلك لابد عليه من إدراك الوحى إدراكًا صحيحًا من أجل أن يغير واقعه نحو التغيير الصحيح، ولذلك نرى أن الخلق والأمر يتكاملان فى دائرة واحدة يصح أن نبدأ من أى نقطة منها فنصل إلى تمامها، وفى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ) [الرحمن: ١ - ٣] إشارة إلى تلك العلاقة الدائرية، والتى بها يسعى المجتهد إلى فهم مراد الله تعالى، فإذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر، والله تعالى أعلى وأعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ