الخميس، 5 يناير 2012

المحظوظ


  بقلم   د. أيمن الجندى    ٥/ ١/ ٢٠١٢

الطريق مكدس تماماً، والحركة شبه متوقفة. وكل عدة دقائق تتحرك السيارة خطوات قليلة ثم تتوقف. «حظك كده يا إبراهيم!. قل لى شيئاً واحداً أنجزته بسهولة. خرجت قبل موعد الطائرة بأربع ساعات كاملة، فهل أفادك بشىء؟!. حظك النكد تسبّب فى حادثة قبيل مرورك، وتوقف الطريق تماماً. لا يمكن أن يحدث هذا طبعا لصلاح. الله يخرب بيتك يا صلاح. ينزل فى آخر دقيقة فيجد الطرقات خالية والإشارات خضراء».
صلاح وإبراهيم يجمعهما القدر معا فى كل مكان. كانا زميلين فى الكلية نفسها، ثم عملا فى شركة واحدة، وبمحض المصادفة سافرا معا إلى دبى فى الشركة نفسها. من المفترض أنهما صديقان. لو كان ممكنا أن يتصادق المحظوظ والمنحوس.
ويرمق إبراهيم رتل السيارات المتكدسة فيلطم ويكلم صلاح على الموبايل للمرة الألف: «صلاح، إنت فين دلوقت؟». ويأتى صوت صلاح ضاحكا مطمئنا، كله سعادة وسرور: «داخل أهه على المطار يا إبراهيم، عمرى ما وصلت بالسرعة دى!».
ويسب إبراهيم ويلعن حظه، وينظر بعينيه إلى طابور السيارات فيكاد يدفعها بنظراته. فلو أن النظرات تحرك شيئا لتدافعت كلعب الأطفال.
إبراهيم يحمل الهمّ، ويغرق فى شبر ميه، ويصادفه سوء الحظ رغم المجهود الخارق الذى يبذله فى كل شىء. لو تأخر يوماً واحداً فى العام لكان هو اليوم الذى يأتى فيه المدير مبكرا. وطبعا صلاح يصل مبكرا هذا الصباح بالذات.
ويزداد إبراهيم غيظا، ويتخيله حليق الذقن ناعم الملامح مستمتعاً بالحياة. محظوووووووظ!!
أيام الجامعة كان صلاح يذاكر ليلة الامتحان صفحتين فتأتى منهما كل الأسئلة. غنى عن الذكر أنهما الصفحتان الوحيدتان اللتان لا يذاكرهما فى كل الكتاب. حتى البنت التى أحبها إبراهيم فى صمت، كانت تتجاهله وتذهب إلى صلاح. الذى لم يكن يعلمه أنه كان يصيبها بالاكتئاب، فيما يدفعها صلاح إلى المرح والانتعاش.
وأخيرا وصل إبراهيم إلى المطار. صعد إلى الطائرة فلمح صلاح منتعشا ككارثة، وهو يجلس بجوار سائحة حسناء. يتبادل معها الحديث الضاحك طيلة الرحلة. أما هو، فكالعادة طبعا، انحشر بين ثلاثة عيال وأمهم البدينة كأفراس النهر، يُحدثون ضجة ويخطفون الأكل من بعضهم، وأمهم تنظر لهم فى خمول وانطفاء.
وتهبط الطائرة، ويخرجان معا من المطار دون أن يدرى صلاح بما يساور إبراهيم. وحين يركبان التاكسى تسود لحظات من الصمت ويبدو الهمّ على وجه صلاح وكأنه تذكر شيئا يضايقه. فيسأله إبراهيم بتهكم:«خير يا عم صلاح؟».
وكأنه طوفان، انطلق صلاح بالكلمات: «المنحوس منحوس يا إبراهيم يا أخويا. فاكر حسام ابن خالتى اللى ساكن معايا فى العمارة. الواد ده محظوظ بشكل! يحط إيده على التراب يبقى دهب! يكسب فى البورصة وكلنا نخسر. بقى مليونير من غير ما يسيب بلده ويتغرب زيى. حتى الدكتوراه أخدها من أول مرة. أما أنا فالنحس راكبنى فى كل خطوة!».
ابتسم إبراهيم وهو غير مصدق لما يسمع: «يا راجل قول كلام غير ده. إنت منحوس؟!».
فأجابه صلاح فى حماس: «منحوس وفقرى، وحسام ده طول عمره معقدنى. آخرها إنى بقالى تلات سنين بادور على عروسة، وتعرف ابن المحظوظة حسام اتجوز مين الأسبوع اللى فات؟»
تساءل إبراهيم وقد زادت ابتسامته اتساعا:«مين؟». عض صلاح  على شفته وكأنما يؤلمه التذكّر: «هبة البحراوى ملكة جمال مصر السنة اللى فاتت».
ويشهق إبراهيم، وقد بدا على وجهه مزيج من الفرحة والانبهار: «بتتكلم جد؟ طب قول والمصحف!».
وينسى إبراهيم أحقاده تجاه صلاح، ويشعر- لأول مرة- بشىء مشترك يجمع بينهما، وهما يتحدثان عن حسام. وتمضى السيارة تشق أوصال المدينة، تُنقّب بكشافاتها المُضيئة عن المحظوظين بين جموع البشر، الذين نتوهم أنهم أخذوا نصيبا أكثر من نصيبنا من ملذات الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ