السبت، 7 يناير 2012

مصر مدنية ولو كره السلفيون بقلم د. طارق عباس



محاولات غير مسبوقة لتخويف الأقباط من المسلمين واستعداء المسلمين على الأقباط وتصريحات محملة بسوء النية وعدم الكياسة، يتناقلها الإعلام المغرم بالإثارة دون الوضع فى الاعتبار توقيت نشرها ومدى أثرها السلبى على المتلقى، وخطاب دينى مشوه يكفر وينفر ويشعل الحرائق بين أهل الوطن الواحد وتعصب وتطرف وجدل محموم حول تفاهات صارت بفعل فاعلين قضايا ملحة، بينما وُضِعَت أولويات الناس تحت أحذية الانتهازيين الجدد. كان المتوقع بعد النجاح الساحق للإسلاميين فى جولتى الانتخابات البرلمانية الأخيرة اندثار خطاب التخويف والتخوين والانصراف عن الفقاعات الدعائية غير المجدية إلى الحوار الجاد حول كيفية إعادة بناء مصر وجميع مرافقها وإعادة الأمن والانضباط للشارع، حول النهوض بالزراعة والصناعة والتجارة والصحة والتعليم والإسكان، حول مكافحة الفقر والسيطرة على الغلاء واحترام سيادة القانون والقضاء على سلطة الاحتكار، حول كل ما ينتشل مصر من ظلمات الاحتياج والفساد والتخلف إلى فضاء من نور المعرفة والاحتماء فى مستقبل خال من كل أشكال الممارسات الديكتاتورية.
لكن المدهش فى تلك المرحلة الحرجة، أن يختفى الحوار حول مصالح الناس، ليحل محله كل ما ينشر الكراهية بينهم، أن تبقى مقصلة الفكر المتطرف أوضح المشاهد أمام رؤوس تسعى لأن ترتفع بعد أن أجهدتها مرارة الانحناء، أن يتحول العداء لكل ما يهدد مصر داخلياً وخارجياً إلى عداء للمسيحيين فقط، وكأن مصر قد تحررت من كل ما يعكر صفوها ولم يبق سوى إنقاذها من هؤلاء الغاصبين الذين يشاركوننا فيها ويحلمون مثلنا برقيها، بالطبع لن أتطرق هنا إلى ما سبق أن قيل مراراً وتكراراً من جانب بعض المتعصبين الإسلاميين، مثل: إلزام الأقباط بدفع الجزية ثمناً للدفاع عنهم وعدم جواز التبرع لكنائسهم وتحريم تهنئتهم بأعيادهم واعتبار من سقط منهم- ولو دفاعاً عن الوطن- قتيلاً وليس شهيداً، لكننى سوف أقف فقط عند ما صرح به حزب النور السلفى مؤخراً من رفضه لمدنية الدولة وسعيه لتضمين النص الدستورى القادم مادة تؤكد على وجوب أن يكون رئيس الدولة مسلماً، والحقيقة أن مثل هذا الكلام ليس جميلاً ولا معقولاً وتكمن خطورته فى عدة أمور منها :
أولاً، الخلط العجيب بين السياسة والدين والإصرار على أن تكون الحاضر فى الماضى، والنظر للمستقبل من خلال منابر المساجد وليس عن طريق منبر البرلمان أعظم ما كان يردده الوفديون قبل ثورة يوليو: (عندما ننتخب فليس هناك أفضل من مصطفى النحاس، وعندما نصلى فإمامنا هو الشيخ حسن البنا) ومن يريد أن يعرف الدولة المدنية ويقرأ عن الدولة المدنية فمرجعه للشيخ الإمام السلفى محمد عبده.
ثانياً، إن توقيت هذا التصريح غير مناسب على الإطلاق خاصةً أن هناك من يحاول إظهار مصر أمام العالم دولة عنصرية، يجبر المسيحيون على الهجرة منها لسوء معاملتهم وفراراً بأنفسهم من جحيم التمييز، وهو ما يفتح الباب واسعاً للتدخل الأجنبى فى شؤون البلاد، فهل هذا هو المشروع السلفى القادم؟ هل هناك رغبة فى استنساخ نموذج السودان واستقطاع جنوب مصر للمسيحيين؟.
ثالثاً، أكد البابا شنودة مراراً وتكراراً أن رئيس مصر لا بد أن يكون مسلماً كما أكد القمص صليب متة سويرس عضو المجلس الملى أن ترشح المسيحيين للرئاسة مضيعة للوقت، إذاً، لا توجد معركة فى الأساس، فلماذا يفتعلها السلفيون؟ وما مصلحتهم فيها؟.
رابعاً ربما يصبح نجاح أى مسيحى فى الانتخابات الرئاسية المصرية من الأمور المستبعدة للغاية، لأن نسبة المسلمين تصل لأكثر من ٩٤%، لكن إذا جاء من ارتضاه الناس ووثقوا فيه وأعطوه أصواتهم وفاز بالأغلبية فهل تمنعه مسيحيته من أن يكون رئيساً؟
هل تكون الديمقراطية حلالاً عندما تسمح للإسلاميين بالوصول للرئاسة والحكم بينما تصبح حراماً على الأقباط؟ هل يعقل ونحن فى القرن الحادى والعشرين أن يكون اختيارنا لحاكمنا متوقفاً على دين الرئيس وعلاقته بربه وما يستره فى قلبه؟.
إن مناخ الانقسام والإقصاء واصطناع التدين سيغتال أهداف الثورة فى الحرية والعدالة الاجتماعية وترك التحديات الحقيقية واختزالها فى اتجاه واحد، بمثابة حفر لأخاديد لن تدفن أحلام المصريين فى الاستقرار فحسب وإنما ستدفن كل أمانيهم فى المستقبل، فمصر التى عاشت عمرها آمنة مطمئنة لا يصح أن تتحول إلى جهنم باسم الدين، ومصر خير أجناد الأرض لن تكون- إن شاء الله- دولةَ عسكريةَ ولا دولةَ دينيةَ ستظل ملكاً لكل ناسها مسيحييها ومسلميها، ستظل قبلة لمن يقصدها، ستظل مدنية ولو كره السلفيون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ