السبت، 7 يناير 2012

الخيار الأوحد: أن نكون أو لا نكون بقلم د. فؤاد عبدالمنعم رياض ٧/ ١/ ٢٠١٢


إن النظرة الواعية لما يحيط بالوطن من مشاكل متتالية تتطلب منا الربط بين جميع المخاطر التى قد تبدو منفصلة فى ظاهرها، فى حين أنه إذا ألقينا عليها نظرة شاملة لأفصحت عن منزلق خطر من شأنه أن يؤدى بنا إلى هاوية لا خروج منها. ولعل تفاقم ما تمر به مصر اليوم من تفكك اجتماعى ناتج عن رفض فئات من المجتمع لفئات أخرى، بل إعلان فريق منها العداء الصارخ ضد الآخرين، مما يشكل إنذاراً، يمثل القشة التى تقصم ظهر البعير.
 لقد شهدنا خلال العقود السابقة ظهور فجوات عمقت الهوة بين المواطنين لم تكتفِ بالإخلال بإحساسهم بالانتماء لوطن واحد، بل بثت فيهم روح الكراهية والعدوانية نحو بعضهم البعض. ومن هذه الفجوات تلك التى باعدت، إلى حد مرفوض، بين طبقات المجتمع، وتلك التى ألقت ببذور الفتنة الطائفية بين المواطنين من مسلمين وأقباط. وقد استفحلت التداعيات السلبية لهذه الفجوات نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية وترك الحبل على غاربه لمنابر دينية تشيع الشقاق والفتنة، هذا فضلا عن التقاعس عن ملاحقة سلطات الدولة للاعتداءات المتفاقمة على سلام المجتمع ووحدته الوطنية بجميع طوائفه.
وقد بعثت ثورة الخامس والعشرين من يناير حياة جديدة فى نفوس المصريين تبشر بالوحدة ونهاية الفـُرقة القائمة على الدين، وكذلك تلك القائمة على الفوارق الطبقية. غير أنَّ الواقع الأليم شهد اتجاهـاً آخر، إذ زادت المصادمات الفئوية والطائفية فى ظل غياب سلطة الدولة وتراخيها فى فرض دورها فى إعمال القانون والاستعاضة عنه بتفويض رجال الدين لحل مشاكل تتطلب حلولا مؤسسية حاسمة. وليس بمستغرب إذن أن نشاهد الآن جماعات متطرفة تنتزع لنفسها سلطة الدولة، وتجاهر بالتسلط دون سند من عرف أو دين، وتفرض قانونها الخاص لتقويم المواطنين تحت زعم «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر». وبذلك نجد أنفسنا فى مواجهة سلطة تنازع الدولة اختصاصاتها الأصيلة، وتهدر القيم الأساسية لحقوق الإنسان التى أصبحت بمثابة دستور عالمى ملزم لجميع الدول، كما قضت بذلك محكمة العدل الدولية.
وغنى عن البيان أن استمرار التراخى فى فرض سيادة القانون، لوضع حد حاسم لهذا التهديد لكيان الدولة وحقوق الإنسان المصرى الأصيلة وحرياته، من شأنه أن يفاقم الفجوات الجسيمة الموروثة عن العهد البائد، بل يهدد وحدة التراب المصرى. وأجد من واجبى أن أنوّه فى هذا المقام بما عاصرته شخصياً، بحكم عملى بالقضاء الدولى، فى محاكمة مجرمى الحرب فى يوغوسلافيا السابقة، حيث أدى التعصب الدينى المقيت للغالبية الصربية المسيحية من سكان يوغوسلافيا إلى نزاع مسلح انتهى بتمزق الدولة وتقسيمها إلى دول ثلاث.
ويجدر بنا، فى هذا المقام، التنويه ببعض الثوابت التى لم يتم الالتزام بها فى الانتخابات الجارية: ولعل أعجبها إجراء الانتخابات البرلمانية قبل وضع دستور يحدد تكوين هذا البرلمان وصلاحياته، وهو أمر يتنافى مع أبسط مبادئ المنطق السليم، إذ لا يعقل أن يشيد بناء قبل وضع أساس هذا البناء.
ومما زاد الطين بلة أن يُعهد إلى الأغلبية البرلمانية باختيار أعضاء لجنة إعداد الدستور، أى قيامها بانتخاب نفسها. ومن المعلوم وجوب تعبير الدستور عن جميع فئات المجتمع وعدم قصر إعداده على فئة واحدة حتى ولو كانت تشكل الأغلبية البرلمانية الحالية. وجدير بالذكر كذلك خطورة الإسراع بإجراء انتخابات برلمانية عقب الثورة مباشرة، بل كان يجب ترك فترة كافية من الزمن، حددتها تقارير بعض لجان الأمم المتحدة بثمانية عشر شهراً، كى يتسنى للقوى الثورية أن تنظم صفوفها وتشكل هيئاتها بما يسمح لها بالمنافسة فى الانتخابات، فإذا لم تـُعطَ لها هذه الفرصة لخلت الساحة للتنظيمات ذات الجذور الثابتة فى فترة ما قبل الثورة للفوز بالانتخابات، وهو ما يجرى حدوثه حاليا على الساحة المصرية. كذلك يتعين الحرص على تكافؤ الفرص بين المرشحين من جميع النواحى وعدم التأثير على الناخبين البسطاء بدعاية لا صلة لها بالصالح العام ومن شأنها إذكاء الانتماءات القبلية أو الدينية.
وأخشى ما نخشاه أن يقودنا خلط الدين بالسياسة - الذى فرض نفسه على الانتخابات البرلمانية الأخيرة والذى استفحل على مرأى ومسمع من سلطات الدولة، كما لمسنا فى لجان المراقبة المنبثقة من المجلس القومى لحقوق الإنسان - إلى تغوُّل التعصب الدينى فى حياة الجماعة المصرية من ناحية، وتراجع السمة المدنية لدولة القانون من ناحية أخرى. ومن شأن ذلك الانغماس فى صدامات دينية مصطنعة لا تؤمن عقباها. كما أنها تحول، حتماً، دون توجيه الجهود لمعالجة رشيدة لمشاكل مصر الحيوية التى تهدد كيانها ذاته، وهو ما سبق أن سميته «الإبادة الذاتية» وهى تتجلى فيما نعانيه من اعتداء متواصل وسريع على رقعة مصر الزراعية، وتصحرها، وتلوث البيئة هواءً وماءً وتربةً قد يقضى على الحياة البشرية، هذا فضلاً عن الانتقاص الجائر لما نحتاجه من مياه النيل، بالإضافة إلى البطالة المتزايدة وانخفاض الإنتاج وتردى الاقتصاد، والتدهور المروع فى صحة الإنسان المصرى وغذائه وتعليمه، إلى غير ذلك من أمور من شأنها إدخال عوامل الفناء البطىء، إن لم يكن السريع، لبنية الوطن.
ولعل بداية الطريق فى هذا المنعطف الخطر من تاريخ مصر، التى خرج أبناؤها لأول مرة للتعبير عن قناعاتهم السياسية والاختيار الحر لممثليهم، يكمن فى قبول بعضنا البعض قبولا كاملا كمواطنين يجمعهم هدف أساسى هو إنقاذ مصر من الانقسام والتشتت اللذين يهددانها بالزوال، ومن تخلف يعيدها إلى العصور الوسطى ويخرجها من دائرة العالم المتحضر، كما يتعين الرجوع للأهداف التى أريقت دماء أبنائها الطاهرة فى سبيلها، المتمثلة فى كرامة كل مواطن، بغض النظر عن دينه، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع الطبقات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعه حكم مصر من بداية عهد الفراعنة https://youtu.be/jJ